ورقة قدمت في المؤتمر الدولي الذي نظمته مكتبة الاسكندرية فاتح يناير، تحت عنوان: صناعة التطرف وسبل المواجهة الفكرية...
توطئة..
في البدء كان المال...
لعل أول خصام حصل بين المسلمين كان بسبب المال، ولم يكن بسبب الدين. ففي غزوة بدر اختلف الشيوخ والشباب حول حيازة الغنائم، فنزل القرآن لحل الإشكال.. "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين" (الأنفال:01) وفي غزوة أحد ترك الرماة مواقعهم حين رأوا انكشاف المشركين وانشغال الناس بجمع الغنائم. فنزل القرآن معاتبا... "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة..."، فقال ابن مسعود ما كنت أظن أن فينا من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية. وفي غزوة حنين تكلم بعض الأنصار في قسمة الغنائم واستئثار المؤلفة قلوبهم بالعطايا دون الأنصار حتى جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم واسترضاهم. ذاك بعض تعلق المؤمنين بالأموال طلبا لما عدوه حقوقا لهم دون أن يصل بهم الأمر حد الشقاق والشغب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خضعوا لحكمه في تقسيم الغنائم، وطابت أنفسهم فاختاروا الله ورسوله على ما سواهما من متاع الدنيا. ويلاحظ أن تطلع المؤمنين إلى نصيبهم من المال العام قابله بذل سخي لأموالهم الخاصة في سبيل الله. فقد مدح الله الأنصار بالإيثار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه جيش العسرة حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم."
لكن فئة أخرى من المنافقين كان المال محكا لكشف سرائرهم. فقد بخلوا بمالهم الخاص حين قالوا.. "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا". وسألوا الله المال وعاهدوه... "لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به..." وتاقت أنفسهم إلى الصدقات فرضوا وسخطوا حسب نصيبهم منها.. "ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون."، فكان أن قسم الله الصدقات في مصاريفها في محكم تنزيله.. "إنما الصدقات... "
لقد ظلت مواقف المنافقين من المال مواربة تلمح إليه فتبخل به، وتتوق إليه. لكنها حين أرادت التصريح تجنبت ذكر المال فلبست مسوح الدين مظهرة الورع والتقوى بالاستئناف على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال قائلهم عند قسمة غنائم حنين:"هذه قسمة ما أريد بها وجه الله."، و"اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل."
هنا يظهر الفرق جليا بين المؤمنين والمنافقين في موقفهم من المال. فلم يطلب المؤمنون منه إلا نصيبا من المال العام، ورضوا سريعا بما قسم لهم منه قليلا أو كثيرا. بينما ظل اهتمام المنافقين منصبا على المال بخلا به، وطمعا في زيادته. لكن اللافت أنهم ظلوا يتحدثون عنه تلميحا، حتى إذا صرحوا جعلوا حديثهم عن المال في قالب ديني يدعو ظاهره إلى العدل والتقوى، وهما دعامتا الدين؛ فالعدل هو الأساس الاجتماعي للدين إذ ينظم العلاقة بين الناس، والتقوى هي أساس العلاقة بين العبد وربه. وبذلك يظهر المنافق الطامع في المال مظهر الساعي إلى العدل المتصف بالتقوى!!!
كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا قبضه الله إليه كشف بعض المنافقين عن وجوههم فرفعوا شعار "نصلي ولا نزكي"، ليعود المال مرة أخرى مصدرا للشقاق بين المؤمنين الصادقين والذين يعبدون الله على حرف. فقد كانت حروب الردة بسبب منع حق الله في المال بدعوى أن الزكاة جباية خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، "فما بال دين أبي بكر؟" كما قال قائلهم... وحين اغتيل الخليفة الثاني رضي الله عنه كان المال محرك أبي لؤلؤة الذي نقم من الخليفة رفضه شكايته لإسقاط حق عليه. وقبل ذلك نقم بعض أهل الكوفة على أميرهم سعد بن أبي وقاص أمورا من بينها أنه "لا يقسم بالسوية"، لكنهم عززوا مطلب المال باتهام سعد في دينه، فقالوا "إنه لا يحسن يصلي"، وهو من هو في سابقته في الإسلام وفضل صحبته وورعه. لكن الطعن في دينه لدى خليفة مثل عمر أنجح للهدف من رفض قسمته للأموال التي يصح فيها الاجتهاد.
كانت تلك فترة الغلاة الذين استطاعت الدولة المركزية استيعابهم، بطرق شتى. وحين ضعف سلطان الخليفة أيام عثمان رضي الله عنه، وكثر الطعن عليه في أمور ذات صلة وثيقة بالمال العام وطرق توزيعه، اجتاز الغلاة مرحلة جديدة فعدوا على الخليفة وقتلوه، ونهبوا المدينة المنورة، مدشنين بذلك مرحلة البغاة الذين سيخرجون على الإمام علي رضي الله عنه، فيحملون السيف على عموم الأمة، ممن خالف اجتهادهم، ويكفرونها. واستمرارا لنهج الغلاة في تغليف المطالب الدنيوية بقناع ديني، سيرفع البغاة شعار "لا حكم إلا لله"، ليظهروا بمظهر المدافع عن الدين، الرافض لتحكيم الرجال في كتاب الله.
لقد أدى انتقال الغلاة إلى مرحلة البغاة إلى تغير جذري في المجتمع الإسلامي. فقد كان اعتراض الغلاة على أحكام السلطة دون الطعن في شرعيتها، وإنما كانوا يظهرون بمظهر الحريص على العدل والتقوى. كانوا، بلغتنا اليوم، يعارضون من داخل الشرعية، في الظاهر على الأقل. فاكتفوا بالمزايدة و التشكيك. أما حين قتلوا الخليفة فقد قضوا على الشرعية، فسموا ثوارا. وحين بايعوا الخليفة الجديد، لم يكن ذلك منهم سوى مداهنة للمجتمع الذي ألف نظام الخلافة، ولم يكن مستعدا لإلغائه بشكل مفاجئ. لكن الثوار حرصوا على تكوين كتلة متماسكة تراقب سلوك الخليفة، وتحسب عليه أنفاسه،(أنظر، تاريخ الطبري) وحين شعرت أن التحكيم قد ينتهي إلى صلح على حسابها بادرت بالانشقاق على الخليفة الذي نصبته. وبذلك بدأت مرحلة جديدة من تاريخ الإسلام بعد عصر النبوة...
يتبع، إن شاء الله.
من صفحة مستشار الرئيس محمد إسحاق الكنتي على الفيس بوك