شرفني الأخ الفاضل السعد ولد الشيخ حسن بالدعوة لحضور حفل تدشين أول زاوية للشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل في موريتانيا
التي تم تدشينها 29 / 12 / 2024 بجوار منزل أهل الشيخ حسن في قرية اكصير الطرشان التابعة لبلدية الطواز بمقاطعة أطار
ويحتوي المقر الجديد لهذه الزاوية على مسجد ومحظرة ومكتبة.
وقد نوهت السلطات الإدارية في ولاية آدرار بجهود القائمين على هذه المؤسسة العلمية وأكدت على أهميتها في نشر قيم الدين الإسلامي المعتدل وتحصين المجتمع ضد مخاطر التطرف والغلو.
وخلال هذا التدشين أوضح الشيخ الطالب اخيار ولد الشيخ مامينا، أن هذه الزاوية ستسهم في تدريس العلوم الدينية ونشر الإسلام والتذكير بمنهج السلف الصالح من خلال الاهتمام والعناية بكتاب الله وسنة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاةوالسلام.
وهنا يستدعي المقام أن أستعرض مقتطفات جليلة من سيرة الطود الشامخ الشيخ ماء العينين اقتداء وأسوة واستئناسا واستلهاما وبركة ' فضلا عن كونه
عالما ومجاهدا ارتبط اسمه بتنظيم مقاومة مسلحة لمواجهة الاستعمار الأوروبي -وذلك وفق ما يسمح به قالب هذا الموضوع- .
وقبل أن ألج تلك الجوانب علينا أن نتطرق بإيجاز لحياة الشيخ ماء العينين من خلال ماكتبه تلميذه الشيخ محمد العاقب بن مايابى
في كتاب: "مجمع البحرين في مناقب الشيخ ماء العينين" (مخطوط):
حيث يقول"هو الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل بن مامين (محمد الأمين) بن الطالب اخيار القلقمي الإدريسي الحسني.
سماه أبوه الشيخ محمد فاضل باسم سيدي المصطفى، لقبه ملعينين، ويكنى بكنى متعددة،
منها: أبو المودة، وأبو الأنوار، وكذلك أبو عبد الله، وأبو محمد '
كان ميلاده الثلثاء، 27 شعبان 1246هـ، ويوافق ذلك 8 فبراير 1831م.
اجتهد في طلب العلم على والده وعلى شيوخه، من أمثال: محمد فاضل بن الحبيب اليعقوبي، فأخذ من شتى العلوم،
ودرس مختلف المتون، في علوم القرآن، والحديث، والنحو، والأصول، والبلاغة…. إلى أن صار من الأعلام المميزين.
ولأنه نهل من العلوم، وارتوى من معينها، تصدر للتعليم والتدريس في مدرسة والده وبحضرته.
سافر إلى الحج عام 1274هـ،
ومكنته تلك الرحلة من معرفة أحوال العالم الإسلامي، كما مكنته من ربط علاقات بملوك الدولة العلوية وأمرائها.
كانت له محطات في رحلة العودة من الحج، ثم تنقل بعد ذلك لعدة مناطق في زيارات ولقاءات، إلى أن استقر بالسمارة
التي توافد عليه فيها طلبة العلم ووجهاء القبائل، فكانت قلعة للعلم ثم رباطا للجهاد.
كان شغوفا بجمع الكتب، ولذلك أنشأ مكتبة كبيرة، فيها أنواع شتى من الكتب، وبالإضافة إلى تدريسه فقد ألف عددا كبيرا من المؤلفات، غطت مختلف الجوانب العلمية في العلوم الشرعية واللغوية، من تفسير، وحديث، وتوحيد، ثم لغة، ونحو، وصرف، وعروض، ثم فقه، وأصول، وأدب، وتصوف إلى غير ذلك.
وبسبب دخول المستعمر الأوروبي إلى المنطقة كان للشيخ ماء العينين دور كبير في الجهاد والمقاومة ضده،
وكان من نتائج تلك المقاومة تأليف الشيخ لكتاب: هداية من حار في أمر النصارى.
وبما أن الشيخ ماء العينين كان سريع الحفظ فليس غريبا أن يستوعب المتون المذكورة في أسرع وقت ' فقد ذكر كل من الشيخ الطالب اخيار ولد بونن والشيخ الطالب أخيار ولد مامِينا في البرنامج التلفزيوني (منابر ومحابر) أن الشيخ ماء العينين "كان درسه اليومي من مختصر الشيخ خليل 20 قفا 'وكان يقرأ من خلاصة ابن مالك 40 بيتا ' ويعضد الشيخ الطالب أخيار ولد مامينا حديثه هذا بما أشار إليه العلامة محمد بويه ولد الشيخ ماء العينين في نظم له تعرض فيه لسيرة والده:
وكان يقرأ من المختصر عشرين قفا بين كل البشر
ولابن مالك قرا بأربعين دائما وفسرا
وكان الشيخ ماء العينين غاية في الكرم والإنفاق وحسن الخلق والمواظبة على العبادة
يقول أحمد بن الأمين في كتابه (الوسيط في تراجم أداء شنقيط) كان الشيخ ماء العينين "فاضلا كريما لا يوجد أحسن منه أخلاقا وقد اجتمعت به حين خروجى من مدينة شنقيط إلى مراكش فى توجهي إلى الحجاز ورأيت منه ماحيرنى لأني أقدر من معه فى وادى اسماره من الساقية الحمراء بعشرة آلاف شخص ما بين أرملة ومزمن وصحيح البنية وكل أصناف الناس وكل هؤلاء فى أرغد عيشة كاسياً من ذلك الشيخ ويزوّج الشخص ويدفع المهر من عنده ويجهز المرأة من عنده مع حسن معاشرته لهم لا فرق عنده بين ولده والمحسوب عليه ولا يمضى عليه يوم إلا وقد بعث قافلة. تأتيه بالميرة أو قدمت إليه أخرى تحملها ومتى بلغ الانسان قريباً منه يسمع دوى مريديه يذكرون اللّه و ينشدون الادعية ورأيته فى تلك الايام التى أقمت عنده لا تفوته صلاة الجماعة فى أول الوقت مع كبر سنه وضعف جسمه وبعد صلاة العصر يسردون له الحديث وهو يسمع ثم يشرح لهم بعض المواضع منه".
ولأن الشيخ ماءالعينين كان أمة في رجل ومشروعا حضاريا " فقد أخصبت رياض العلم بعظيم سعيه ومحاسن أخلاقه ومنهجه في التربية والجهاد فانثال عليه طلاب العلم من كل فج عميق ' فهو بحق محيى السنة ومقيم أركانها ومجلي طامسي آثارها ' كان عالما وشيخ صوفية ومجاهدا كبيرا ومؤلفا مكثرا ترك مآت المؤلفات والآثار العلمية" وبهذه الصافات الحميدة التي يشهد بها الجميع تحدث المختار لسان الدين في برنامجه التلفزيوني (منابر ومحابر) ضمن حلقة خاصة عن المكانة الساميةللشيخ ماءالعينين ودوره المتميز في شتى المجالات مضيفا أن الشيخ ماءالعينين "كان من كبار الشخصيات الثقافية والاجتماعية والوطنية وواحدا من جهابذة أهل النظر والإصلاح والتبصر وقد أتقن فني المعقول والمنقول وهو بعد ما يزال فتى يافعا قبل أن يتصدر للتدريس والإفتاء في مدرسة والده الشيخ محمد فاضل ' وقد دون عنه أنه استبطن دخائل العلم فيها وغاص في أسراره وأحاط بأصوله وفروعه ثم بعد الإجازة والتصدر أمره والده بالذهاب إلى حيث ينفع الله به من يشاء فذهب داعيا إلى الله مجددا أمر الدين فحج بيت الله الحرام أولا وبعد العودة تنقل في شبه المنطقة الشمالية مترددا بين أهم حواضرها ومراكز استقطاب ساكنتها ومبرما بعلاقات ثقافية حميمة مع الأفراد والأعيان والجماعات ' فأسس على طريق القوافل بين بلاد شنقيط والمغرب وبين بلاد الساحل وتينبكتو مدينة اسماره مجسدا بذلك مشروعا حضاريا تمثل أيضا في إحياء الأرض بحفر الآبار وغرس النخيل والبناء". هذا مع دوره المشهود في مقاومة الاستعمار الأوروبي' " مشكلا واحدة من أهم ظواهر الحياة السياسية في شبه المنطقة".
وهنا يتأكد أن المقاومة الباسلة التي قادها الشيخ ماء العينين لم تكن في تطلعاتها وأساليبها قطرية ولامناطقية ، فقد ترفعت عن هذه النظرة الضيقة ، وذلك نتيجة لإيمانها بالانتماء القومي والحضاري لأمتها العربية والإسلامية ، وقد ساعدها على ولوج محيطها العربي أنذك عدم وجود حدود سياسية لموريتانيا مع جيرانها العرب ،الذين تفاعلوا مع هذه المقاومة وغذوها بالسلاح والرجال ، وفي هذا الصدد
يقول محمد يحظيه ولد أبريد الليل في مقاله ( ذكرى غَزِّي الأركابْ: لنحافظ على المشعل ) "تمكن الشيخ ماء العينين، في ذلك السياق التاريخي الميؤوس منه، في تلك الأوقات الصعبة، أن ينال تلك القامة وتلك المكانة التي لن يبارحها عند معاصريه وعند الأجيال اللاحقة.
لم يكن من السهل التحكم من النفس داخل جو مفعم بالأخطار والريب من كل اتجاه. هذا الوقت بالضبط هو الذي أبان فيه وبسط كل الفضل وكل العلو الذين يميزان الرجل ذا المكانة وذا التربية الرفيعتين.
إن التهديدات والخسائر لم تميع ولم تهز يوما واحدا إرادة هذا الرجل الذي بلغ 75 سنة وهو واثق كل الثقة في عدالة قضيته ومؤمن كل الإيمان أن السيادة لا يمكن التنازل عنها.
هذه الثقة بالنفس هي التي قهرت قلوب الرجال.
الشيخ ماء العينين هو وحده في غرب الصحراء الكبرى الذي تمتع بالنفوذ والتاثير الكافيين ليجذب على ظهور المواشي أو سيرا على الأقدام، عبر آلاف الكيلومترات الأمراءَ المسنين المتعودين على إصدار الأوامر القاطعة وشيوخ الطرق الذين تبدأ علاقتهم مع الآخرين بتقبيل أيديهم والعلماء الذين عودهم التفكير على الهدوء ونبذ الولع بالتوافه والتجمعات الصاخبة.
بفضل صدقه وحزمه وشجاعته فرض نفسه كقائد بلا منازع على هذا الفضاء الصحراوي، باسطا نفوذه من الداخلة إلى تينبكتو ومن اندر إلى كليميم. لم يوجد منذ 1062، أي منذ ظهور يوسف بن تاشفين، من حصل على هذه الهالة من النفوذ والاعتبار على هذه المفازات الشاسعة الجافة .. " ويضيف
"ليس هناك في البقاء والخلود ما يضاهي المجد، لأنه لا يشيد باللبنات والحجارة والحديد.
مقر المجد هو في قلوب وأذهان الرجال. إنه لا يتحطم.."
وتأكيدا على أن المقاومة في زمن الشيخ ماء العينين قد ترفعت عن القطرية والمناطقية يقول الخليل النحوي في كتابه المنارة والرباط : (وقد هب المواطنون من جميع المناطق لمواجهة الاستعمار..وتنادت قبائل البلاد فقررت إرسال ركب إلى الشيخ ماء العينين بمقره في اسمارة بالصحراء .. لطلب النجدة بالعتاد وعدة الحرب ...)
ومع أن العطاء الزاخر للقطب الجليل الشيخ ماء العينين قد شمل شتى المجالات وخدم المجتمع وحافظ على حضارته وأمنه الاجتماعي وطهارته وأخلاقه فقد أسس منظومة إصلاحية أساسها نشر العلم وتنوير العقول وتقوية العزائم باليقين وتقويم السلوك بالاتزام' فقد تصدر على والده في مقامات التصوف كلها بما في ذلك الطريقة القادرية التي عنيت إلى أقصى حد بمقامات هذا الدين كالتوكل والمراقبة والتوبة واليقين والشكر والصبر وغير ذلك.. ' وقد تشبث هو نفسه في جميع محطات حياته بالاستقامة والتحلى بمراتب تقوى الله التي قد شرحها على لسان الشيخ محمد العاقب ولد مايابا
ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﻮﻝ ﻧﺎﻇﻤﺎ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﺘﻘﻮﻯ ﻣﻦ ﻣﺠﻠﺲ القطب الجليل الشيخ ﻣﺎﺀ ﺍﻟﻌﻴﻨﻴﻦ :
ﺣﻀﺮﺕ ﻣﺠﻠﺲ ﺇﻣﺎﻡ ﺍﻟﻨﺼﺤﺎ :: ﻣﺎﺀ ﺍﻟﻌﻴﻮﻥ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻀﺤﻰ
ﻳﺤﺪﺙ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺪﻳﻦ ﺃﺣﻤﺪ :: ﻭﻫْﻮ ﻳﻘﻮﻝ ﺟﺎﻟﺴﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺠﺪ
ﺇﻥ ﺍﻟﺘﻘﻰ ﻭﻫْﻮ ﺃﻋﺰ ﻣﺎ ﺍﻛﺘﺴﺐ :: ﺫﻭ ﻫﻤﺔ ﻳﺄﺗﻲ ﻋﻠﻰ ﺧﻤﺲ ﺭﺗﺐ
ﺗﻘﻰ ﻳﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﻠﻮﺩ :: ﻭﻫْﻮ ﺍﺗﻘﺎﺀ ﺍﻟﺸﺮﻙ ﺑﺎﻟﻤﻌﺒﻮﺩ
ﻭﻣﺎ ﻳﻘﻲ ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﺤﻴﻢ :: ﻫﻮ ﺍﺗﻘﺎﺀ ﺍﻟﺰﻟﻞ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ
ﻭﻣﺎ ﻳﻨﺠﻲ ﻣﻦ ﻋﺬﺍﺏ ﺍﻟﻤﺴﻠﻢ :: ﻓﻲ ﻗﺒﺮﻩ ﻫُﻮ ﺍﺗﻘﺎﺀ ﺍﻟﻠَّﻤﻢ
ﻭ ﻣﺎ ﻳﻨَﺠﻲ ﻣﻦ ﻣﺼﺎﺋﺐ ﺍﻟﺪﻧﺎ :: ﻫﻮ ﺍﺗﻘﺎﺀ ﺍﻟﺸﺒﻬﺎﺕ ﻭﺍﻟﺨﻨﺎ
ﻭ ﻣﺎ ﺑﻪ ﺗﺴﺘﺠﻠﺐ ﺍﻷﻓﺮﺍﺡ :: ﻫﻮ ﺍﺗﻘﺎﺀ ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﻳﺒﺎﺡ
ﻓﻤﻠﺖ ﻣﺼﻐﻴﺎ ﻟﻤﺎ ﺣﻜﺎﻩ :: ﻭﺻﺎﻓﺤﺖ ﻳﺪﻳﺘﻲ ﻳﺪﺍﻩ
ﺃﻋﺎﺩﻩ ﻋﻠﻲ ﺣﺘﻲ ﺍﺳﺘﻜﻤﻼ :: ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻛﻤﺎ ﺣﻜﺎﻩ ﺃﻭﻻ.
نفعنا الله ببركة القطب الجليل الشيخ ماء العينين وجعل هذا الجهد في ميزان حسناتنا ووفقنا لما يحبه ويرضاه.
وجزى الله خيرا السعد ولد الشيخ حسن على إصراره على بناء زاوية علمية للشيخ ماء العينين' معتمدا في هذا الهدف النبيل على همته العالية وإمكاناته المادية وجهود ابن عمه رجل الأعمال محمد بن كركوب . وبذلك نالت قرية اكصير الطرشان بركة أبناء شيخ ماء العينين الذين اتخذوها مقرا دائما.
باباه ولد التراد