بعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ومليوني نازح، ونصف المليون ممن يعيشون المجاعة، يستقبل قطاع غزة يوم الأرض بالصمود والثبات؛ إذ إن هذا اليوم مكرّر في ذاكرة الفلسطيني، وكأنه يوم مُعاد؛ باستثناء كل الخروقات التي سطّرها المقاومون في قطاع غزة والضفة الغربية، وصولاً إلى 7 أكتوبر.
ويأتي يوم الأرض ليذيب وهم الجغرافيا بين المدن الفلسطينية، من قطاع غزة إلى الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، وحدها الحواجز والعوائق تحيل بين أبناء الأرض، الذين يحاولون الالتقاء على هدف واحد، ريثما يحرّرون أرضهم، "الهدف المبارك"، المتمثل بالمقاومة والاشتباك.
"يوم الأرض الخالد"، كما يسميه أهل البلاد، والذي يصادف في مثل هذا اليوم 30 مارس عام 1976، بعدما خرجت فيه أول مواجهة مباشرة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48 مع "الجيش" الإسرائيلي منذ النكبة معلنين الإضراب العام، هذا اليوم الذي نستقبله وسط حرب همجية منذ ستة شهور، شنتها قوات الاحتلال على غزة، ليسطّر مقاوموها فصولاً من المجد العظيم، ويعيدون تعريف الأرض والانتماء والوطن بكل مواجهة وثبات وصمود، ليغدو هذا العام يوم الأرض مختلفاً، كأنه يعيد تعريف نفسه من جديد: هو يوم الذين فضّوا مخططات النكبة من جديد، ويوم الدماء التي ستحيا في عروق الأجيال الجديدة من أجل الثأر.
بدأت قصة يوم الأرض بقرار من سلطات الاحتلال بمصادرة 21 ألف دونم من قرى عرابة وسخنين ودير حنا وعرب السواعد، ومناطق أخرى من الجليل والنقب، لبناء مستوطنات و8 وحدات صناعية تحت مشروع يسمى "تطوير الجليل".
رفض أهالي القرى هذا القرار، وعقدوا عدة اجتماعات، وأقرّوا أن هذه الأراضي لن تسلب منهم ولو كلّفتهم دماءهم، وأجمعوا على التظاهر والمقاطعة والاحتجاج ومنع مصادرة شبر واحد من هذا الأراضي، فبدأت المفاوضات وتقديم الاقتراحات التي سبقت إعلان الإضراب، فخرج توفيق زيادة وهو كاتب وشاعر سياسي فلسطيني من مدينة الناصرة، قائلاً كلمته الشهيرة: "الشعب قرّر الإضراب".
وقد تم اتخاذ قرار الإضراب بتاريخ 29 مارس لعام 1976، ففرضت سلطات الاحتلال حظر تجول كخطوات استباقية، وهدّدت بإطلاق النار على كل متظاهر ومحتج يخرج إلى الشارع، لكن الشعب كان قد قرّر وخسرت سلطات الاحتلال المعركة قبل بدايتها.
خرجت أولى المسيرات من عرابة، استخدم فيها جنود الاحتلال القوة والقمع وإطلاق النار، فاستشهد خير أحمد ياسين (23 سنة) بطلقة نارية، وكان أول الشهداء في يوم الأرض، مما تسبّب بتأزم الوضع، فسرعان ما اتسعت رقعة الاحتجاجات، فخرجت مسيرة كبيرة من سخنين بدأ فيها إطلاق النار العشوائي، واستشهدت خديجة قاسم شواهنة بطلقة في الرأس وهي تحاول إنقاذ شقيقها خالد شواهنة صاحب الثماني سنوات، وفي المكان نفسه، أصيبت المعلمة آمنة عمر برصاصة في البطن، وبدأت تصرخ وتطلب المساعدة، فخرج خضر خلايلة وشقيقه أحمد لمساعدتها فاستشهد خضر برصاصة قاتلة، واستشهدت المعلمة آمنة على مرأى أحمد وهي تنزف.
أدت هذه التظاهرات إلى كسر حاجز الخوف، ومهّدت إلى تأسيس مرحلة تصدٍ لقوات الاحتلال تعتبر الأولى منذ النكبة، وسرعان ما تحوّلت مسيرات الغضب إلى مواجهات مع "الجيش" الإسرائيلي.
ونتيجة لذلك، تراجعت حكومة إسحق رابين عن قرار مصادرة الأراضي بعدما أثبت أهالي الـ48 أن لا مساومة على الأرض، ولا خضوع لسياسات الاحتلال الممنهجة في التهويد والاستيطان. فيما لا يزال الفلسطينيون في الـ48 والضفة الغربية يواجهون الاعتداءات الإسرائيلية التوسعية على أرضهم، على الصعد كافة، فمنهم من يخرج بلحمه الحي ليحمي منزله من التجريف، وآخرون يشتبكون عبر خلايا وكتائب مؤلفة من مقاومين لا تمرّ عليهم المذلة في سياق عابر.
إن معركة الأرض لم تنتهِ في 30 مارس 1976؛ بل هي مستمرة حتى يومنا هذا. ونستطيع أن نقول إنّ كل الأيام الفلسطينية هي بمثابة "يوم الأرض"؛ ففي كل يوم تحاول حكومة الاحتلال مصادرة الأراضي الفلسطينية، والاعتداء على الحقوق، وتدنيس المقدّسات، يخرج مقاومون مقبلين كشمس لا تتردّد في ضوئها على أحد، إنهم رجال الموت ومعنى الجدوى المستمرة.
الميادين