"الثورات” العسكريّة التي تجتاح إفريقيا هذه الأيّام وتُطيح بأنظمة الفساد والتبعيّة لفرنسا والغرب، وتنحاز إلى الشّعوب المسحوقة، وتضع هدف إخراجها من أزماتها، وتعزيز سيادتها، وحماية ثرواتها، على قمّة أولويّاتها، هذه الثورات جاءت في الوقت المُناسب، ولهذا التفّت حول جِنرالاتها مُعظم الشعوب، باعتبارهم قادة إنقاذ مرحلي وكراهيّتهم لفرنسا وأتباعها.
التاريخ يُعيد نفسه، فبعد ما يَقرُب من 70 عامًا من موجة الثورات الشعبيّة المُسلّحة، التي تفجّرت لتحرير القارة من الاستِعمار وهيمنته واحتِلالاته، وتطهير البِلاد من مُوبقاته، ها هي اليوم تتجدّد، وتجتثّ بقايا الاستعمار، وتُنهي التبعيّة له، وتُنقذ ثروات البِلاد من سرقاته، وتُطيح بأنظمة الفسَاد التي حظي مُعظمها بدعمه، أيّ الاستِعمار، تحت مُسمّى حُكم الديمقراطيّات المغشوشة.
ستّ انقلابات عسكريّة تفجّرت في دُولٍ إفريقية في غُضون عامَين على الأكثر، في مالي، غينيا، النيجر، بوركينا فاسو، والسودان، وإن كان انقلاب الأخيرة مُحبِطًا ومُختلفًا بكُل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وليس هُنا مكان الإطالة والشّرح، ومُعظم هذه الثورات جاءت بهدف التّصحيح، وليس لاستِيلاء من قِبَل مُعظم قادتها على الحُكم، والمقصود بالتّصحيح هو إسقاط أنظمة فاسدة، وصلت إلى سدّة الحُكم بالتّزوير، والفساد، والدّعم الغربيّ، والفرنسيّ على وجْه الخُصوص، وإلّا لما انحاز الشعب لصفّها، ودعم تحرّكها بالصّورة التي شاهَدناها.
***
ثورات عسكريّة نعم، وتُجَسِّد الربيع الإفريقي الوطنيّ المُسلّح، وليس مِثل “ربيعنا العربيّ” الزّائف المُزوّر الذي بَذرت بُذوره السيّدة كونداليزا رايس، وأشرفت على تنفيذه السيّدة الأُخرى هيلاري كلينتون، وبتعاونٍ مع بعض فصائل الإسلام السياسيّ، وبلغت نفقاته ترليونيّ دولار، ومِئات آلاف الشّهداء، ولهذا جاءت النتائج كارثيّة، عُنوانها الأبرز الفوضى، والتّطبيع، والتّجويع ونهبِ المالِ العام.
هذه الحركات العسكريّة الإفريقيّة التي يقودها جِنرالات شُبّان ومن رحمِ الفُقراء تُذكّرنا بنظيراتها العربيّة في مِصر عبد الناصر، وعِراق عبد الكريم قاسم، وجزائر بومدين وبن بلا، وليبيا معمّر القذافي، وسورية شكري القوّتلي ورفاقه، والقائمة تطول، فعندما تحوّلت الأنظمة القائمة في حينها إلى أدواتٍ في خدمة الاستِعمار، وتواطأت معه في تكريس الاغتِصاب اليهودي الصهيوني لفِلسطين، ثارت الجُيوش لعزّتها وانتصرت لكرامةِ أمّتها، وأطاحت بمُعظم هذه الأنظمة، وانتقلت الثّورة مِثل حجارة “الدومينو” من عاصمةٍ إلى أُخرى.
هؤلاء الجِنرالات الذين أطاحوا بالأنظمة العميلة لفرنسا في مالي وبوركينا فاسو، والنيجر، وأخيرًا في الغابون هُم من أبناء الشعب، ولم يتحرّكوا على ظهْر دبّاباتٍ أمريكيّة، أو بريطانيّة أو فرنسيّة، تنفيذًا لأوامِر مُشغّليهم، وإنّما بدافعٍ من أنينِ شُعوبهم، وجُوع أطفالهم، وتدهور الأحوال على كُلّ الصُّعد في بلادهم.
صدمني جوزيف بوريل وزير خارجيّة الاتّحاد الأوروبي عندما دافع عن شرعيّة الانقِلاب العسكري في الغابون، وأدان نظيره في النيجر، مُدّعيًا أن الأخير، أيّ في الغابون، وقَعَ في دولةٍ شابَ انتِخاباتها الرئاسيّة الأخيرة (علي بنغو) “مُخالفات” وتجنّب استِخدام كلمة تزوير، مصدر الصّدمة، أن بوريل هذا، وكًل الحُكومات الأوروبيّة التي يُمثّلها اتّحاده، كانت تعرف أن الانتِخابات في النيجر والغابون ومُعظم الدّول الإفريقيّة الأُخرى مُزوّرة، ولكنّها، أيّ دُول الاتّحاد الأوروبي حارسة الديمقراطيّة الغربيّة لم تتحرّك مُطلقًا، ولم تعترض على تزوير الرئيس الغابوني للانتِخابات وتعديله للدّستور للبقاء في السّلطة لولايةٍ ثالثة، استِمرارًا لحُكم أُسرته الفاسِدَة المُستمر مُنذ 55 عامًا.
الصّدمة الأُخرى جاءت من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي رفض تنفيذ قرارات الحُكومة النيجريّة الجديدة، بسحبِ سفيرِ بلاده، وقوّاتها الذي يزيد تِعدادها عن 1500 جُندي، وبعد انتهاء المُهلة الممنوحة من قِبَل الحُكم العسكريّ الانتقاليّ، لأنّ فرنسا لا تعترف به، فبأيّ حَقٍّ يُصدِر ماكرون هذه الفتوى، وهل ما زال يعتقد أن فرنسا دولة عُظمى ما زالت تحكم القارّة الإفريقيّة؟ ألا يعلم أن هذه الانقِلابات العسكريّة جاءت بسبب سرقة بلاده وعلى مدى عُقود لثروات الأشقّاء الأفارقة من غاز ونفط ويورانيوم وذهب وبوتاسيوم لإفقارهم، ورخاء الشعب الفرنسي على حِسابهم؟
***
إنّها مرحلة التحرير الثانية والنهائيّة التي تعيشها القارّة الإفريقيّة، التّحرير من التبعيّة، وإعادة السّيادة والسّيطرة على ثروات القارّة، ووقف النّهب المُستمر مُنذ 70 عامًا لثرواتها تحتَ غِطاءٍ من الحُكومات “الديمقراطيّة”.
الثورات العسكريّة العربيّة هي التي ساعدت إفريقيا والعديد من الدّول الآسيويّة على التخلّص من الاستِعمار الغربيّ، ودعمت ثرواتها خاصّةً في زمنِ الزّعيم الراحل جمال عبد الناصر، ولا نستبعد أن تنتقل عدوى الثورات العسكريّة الإفريقيّة إلى العالم العربيّ، والإطاحة بالأنظمة الفاسِدة الخاضِعة للإملاءات الأمريكيّة والفرنسيّة، بل والإسرائيليّة أيضًا، فمَا ثارَ ضدّه عسكر إفريقيا، مِثل الفساد والظّلم، وغِياب العدالة الاجتماعيّة، والمُساواة، والانتِخابات المُزوّرة، ونهب الثّروات، والتّطبيع مع العدوّ الإسرائيلي، يتضخّم في المِنطقة العربيّة، فهل يصل “الربيع العسكري” الإفريقي إلى عواصمٍ عربيّةٍ وفي أسرعِ وقتٍ مُمكن؟
نترك الإجابة إلى الأيّام والشّهور المُقبلة، ولا نستبعد أن تكون بالإيجاب.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان