«كان صرحا من خيال فهوى» خيال كثيرين وجدوا، كل على طريقته، في حزب «نداء تونس» الذي أسسه الباجي قايد السبسي في يونيو/ حزيران 2012 فرصة لاستعادة توازن كانوا يرون أن البلاد افتقدته بعد ثورة 2011 لم يستسغ هؤلاء بشكل خاص ما بدا أنه محاولات حثيثة من تيارات إسلامية متعددة، في مقدمتها حركة «النهضة»، من أجل تغييب تونس الحديثة التي عرفوها منذ الاستقلال عام 1956 لتحل محلها تونس أخرى بالكامل تملك هؤلاء الخوف على ما كانوا يصفونه بالمكاسب الحداثية المتعلقة أساسا بحرية المرأة وحقوقها غير الموجودة في أي بلد عربي آخر صحيح أنهم، في غالبيتهم على الأقل، ما كانوا راضين على ملاحقة المتدينين في عهد بن علي لكنهم في المقابل لم يستسيغوا بعد رحيله أن تصبح لهؤلاء اليد الطولى في صياغة مشهد مجتمعي جديد حين شرع هؤلاء، المضطهدين السابقين في محاولة تغيير الملامح العامة للبلاد وسلوكيات أهلها انتشرت مظاهر التدين الشديد في كل مكان فاختلط فيها من حـُــرم منها سابقا بتعسف بكل ملتحق جديد تطفلا أو تزلفا بدت «الترويكا» الحاكمة آنذاك، بقيادة حركة النهضة مع حزبين يساريين آخرين مع المنصف المرزوقي رئيسا، حديثة العهد بدواليبب الحكم ومقتضياتها فارتكبت من الأخطاء الكثير، كما بدت في نظر معارضيها المتكاثرين في صورة المتسامحة مع تصاعد مظاهر التطرف الديني ومحاولات الاستحواذ على المساجد والفضاءات التربوية لنشر فكر ديني متشدد حزب «نداء تونس» استطاع أن يستقطب كل هؤلاء الغاضبين أو المتوجسين مما جرى ركض إليه كل هؤلاء باحثين فيه عن «المنقذ»، ومن بينهم عدد غير قليل من جماعة حزب بن علي نفسه كانت المرأة التونسية الخائفة على مكتسباتها عمودا فقريا لهذه الموجة الجديدة مع عناصر ليبرالية ويسارية لم تعد ترى في تحالفها مع بقايا الحزب الحاكم السابق ما تخجل منه أو تتحفظ طالما أن الهدف هو صد هذا التوجه الذي يصفونه بالظلامي والرجعي وجدت بعض الدول العربية في هذا التيار المعادي لمشروع الإسلاميين وحلفائهم فرصة ذهبية لدعمه لإسقاط ما أثمره ربيع تونس الذي يتهمونه، هم الآخرون، بأن دولا عربية أخرى منافسة لها تقف سندا له في كل هذا المشهد، كان الباجي قايد السبسي شخصية محورية ونافذة أسس حزب «نداء تونس» لـــ «يشفط» كل هذا التململ والغضب لصالحه ونجح في ذلك، كما أسسه ليرد «الصاع صاعين» لحركة النهضة التي اتفق معها مبدئيا على رئاسة البلاد في الفترة الانتقالية لكنها فضلت عليه في النهاية المنصف المرزوقي ساعد في نجاح قايد السبسي قدرته السلسة على مخاطبة الناس الذين وجدوا فيه بدورهم بعضا من شخصية الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة البراغماتية البعيدة عن الايديولوجيا والشعارات الكبرى بدأ العد التنازلي لهذا الحزب الجديد منذ اليوم الأول لدخول 86 من نوابه البرلمان الجديد بعد أن جاء في المرتبة الأولى في الانتخابات النيابية، ومنذ اليوم الأول لدخول قايد السبسي قصر قرطاج قبل عام من الآن كل الذين التحقوا بهذا الحزب من اليمين واليسار وقفوا في طوابير توزيع المناصب ينتظرون فما أفلح منهم إلا قليل كظموا غيظهم حتى إذا ما تبدى أن الرئيس الجديد ليس في وارد الدخول في مواجهة مع حركة النهضة التي وجدت مكانا لها رمزيا في الحكومة التي تدعمها اعتبروا ذلك خذلانا لناخبيهم وإخلالا بالوعود التي قطعت لهم نفس الخيبة أصابت الرعاة الاقليميين لهذا التوجه فما كان ظنهم أن قايد السبسي سيكتفي بهذ المحطة، بعد كل الدعم الذي قدم لجماعته، فلا يمضي إلى محاصرة النهضة أو إقصائها بالكامل من المشهد المشكل الآن أن هذا الحزب الذي وصفه مرة أحد الصحافيين بــ «الكليم» أي السجاد المكون من أقمشة متعددة الألوان والمتناثرة بلا أي تناغم، لم يخب فقط ظن من التحق به طمعا وإنما خيب ظن كثيرين ممن لم تكن لهم مثل هذه الحسابات الأنانية لكنهم توسموا فيه خيرا ظنوه قادرا على إحداث توازن ضروري في الحياة السياسية منعا لأي تغول للنهضة أو لغيرها فاكتشفوا الآن، وبعد تفكك الحزب إلى ملل ونحل مع اتضاح عجز قايد السبسي على إصلاح ذات البين بين الفرقاء المتناحرين، أن هذا الحزب لا يختلف في شيء عن بقية الدكاكين الحزبية الكثيرة في البلد المشكل الأكبر هو أن قطـــــاعات لا بأس بها من التونســـيين خاب ظنهم أول الأمر في «النهضــــة» ومن معها، ثم ها هو أملهم يخيب ثانية في من ظنوهم بديلا جيدا أو على الأقل رديفا محترما هؤلاء، من يمكن أن يقنعهم في المستقبل بوضع ثقتهم فيه؟!! العزوف المحتمل لهذه الشريحة عن الحياة السياسية وربما المشاركة في انتخابات مقبلة قد يفتح الباب أمام مفاجآت قد لا تكون سارة بالضرورة.