حين يكون الصحفي أديبا

أحد, 07/24/2022 - 22:38

من عاداتي التي لا أتركها أن أجهز لكل خريف مجموعة من الكتب لقراءتها جميعا خلال عطلات الأسبوع التي أقضيها خارج العاصمة ..
وقد تمكنت بسبب هذه العادة من قراءة عشرات الكتب في مجالات مختلفة ( أدب، تاريخ، مذكرات، تراث، قصص واقعية، أو ممنوعة من التداول، تراجم شخصيات مؤثرة …)..
ومن بين الكتب التي خصصت لهذا الخريف كتاب الصحفي الروائي أحمد فال ولد الدين ( حجر الأرض)..
والحقيقة أنني انبهرت ليس بالحس الصحفي في الكتاب وإنما بمستوى لغته الآسرة وتدخل النفَس الروائي في سرد الأحداث.. بل واستحضار الكاتب لبعض الشخصيات المثيرة في التاريخ العربي والاسلامي ليتقمص (مشاعرها) وهي تعيش أحداث أفغانستان ..
الكتاب يروي بنوع من المتعة وبعين الصقر انتصار طالبان الأخير وهروب حكومة كابل ومغادرة آخر جندي أمريكي بلاد(خراسان).. لكن هذا الحدث ليس سوى نتيجة حتمية لسلسلة أحداث مرت بها تلك البلاد منذ الفتح الاسلامي، بل ومنذ الغزو التتري والبريطاني والسوفياتي ثم الامريكي …
اتكأ أحمد فال ولد الدين على رصيد غزير من معرفة التاريخ الاسلامي والتاريخ الأفغاني، معتمدا في ذلك على أمهات كتب التراث العربي وما كتبه علماء افغانستان وما دونه المؤرخون الغربيون عن هذا البلد الذي اتفق الجميع على أنه مقبرة الغزاة..

أحمد فال انفرد برواية ساحرة عن نشأة طالبان عشية اغتصاب فتاتين في أحد أقاليم البلاد من طرف مليشيات من بقايا المجاهدين ضد الروس..
ويزداد سحره حين يروي تفاصيل اللقاء العاصف بين الملا عمر ومدير المخابرات السعودية الذي جاءيطلب تسليمه بن لادن بعد أحداث 11 سبتمبر، لقد كان لقاء أشبه بذروة التألق الدرامي في فيلم تراجيدي..
ويصل هامة السحر حين يروي أحداث اجتماع طالبان لاتخاذ القرار ازاء محاربة الغرب أو الاستسلام.. 
ثم آخر ظهور علني للملا عمر ..
أحمد فال استثمر حسه الروائي، وألقه التشويقي حين روى رحلة تخفي الملاعمر واللحظات التي كان فيها الامريكيون على بعد أمتار منه دون أن يعثروا عليه .. وكل ذلك يمنحه الكاتب جرعات من التحليل الممتع فيحضر التاريخ وبنية المجتمع الافغاني وجغرافيا المكان وعلاقة الناس بطالبان نفسها…

المطالع لكتاب (حجر الأرض) سيدرك قيمة أن يكون الصحفي أديبا … فبين رائحة البارود ولهيب النار في المعارك يشنف ولد الدين سمعك وناظريك بعيون الشعر العربي التي يستحضرها بكل أناقة ودون نشاز ..
لقد سحرني هذا الكتاب/ النص.. ومن فقراته التي أسرتني وغازلت دمعي قوله متحدثا عن آخر لحظات الملا عمر :

".. قام عبد الجبار والأخوان عبد الصمد وعبد الأحد بدفنه ليلا في مقبرة قريبة من مكان وفاته دون إشعار أحد. ثم تحرك عبد الجبار مسرعا الى مدينة كويتا ليخبر زعماء الحركة، حاملا نبأ رحيل واحد من أكثر الشخصيات تأثيرا في تاريخ أفغانستان المعاصر.
ففي ذلك المساء، وبعيدا عن أنظار العالم ووكالات الأنباء سقط حجر آخر من أحجار أرض خراسان.. توفي الملا محمد عمر.."…

هذه الفقرة تأخذ قوة وخزها من ما سبقها.. وما سيأتي بعدها.. ثلاثة رجال وامرأة هم فقط الذين كانوا يعرفون مكان الملا عمر رغم أنه كان يدير المعارك من مخبئه.. أربعة أفراد انتصروا على كل مخابرات العالم التي كان مطلوبها الأول الملا عمر.. بعد القضاء على بن لادن الذي لم يفت ولد الدين وصف مشاعر الملا عمر حين ترجم له أحد مرافقيه خبر مقتله..

حجر الأرض .. 160 صفحة من المتعة ومن صراع المشاعر .. الحزن والفرح .. 
ومهما يكن فلا مطر الخريف ولا عواصفه بإمكانها نزع هذا الكتاب من يديك ..
إنها القدرة على جعل الأحداث الواقعية، فوق الخيال والفانتازيا….

من صفحة الدكتور الشيخ معاذ سيدي عبد الله