غداً سيحطُ الوفد الرئاسي الرحال بهذه المدينة، حيثُ سيُعطي ولد العززاني إشارة انطلاق الحملة الزراعية من منطقة "أفَلّه" التي يسودها الفقر والهشاشة (مثلث تامشكط، الطينطان، كيفه).
على خط التماس بين منطقتي "آوكار" الرملية و"أفلّه" الصخرية تأسست تامشكط في عام 1927 من طرف المستعمر الفرنسي، وولد مركزٌ قوي، حتى قبل تأسيس عروس الشرق، مدينة "اعيون العتروس".
منذ التأسيس، شكلت تامشكط حيزا جغرافياً مناسبا للتعايش، فاستوطنتها مجموعات وقبائل من مختلف جهات الوطن..
فكرة التعايش، بجانب الإدارة والقانون والمدرسة، تكرستْ بشكل عملي، وهو ما انعكسَ إيجاباً على الدور الوطني لتامشكط، فخرّجت عشرات القادة ورجال الهم العام..
رجال مسموعو الرأي مطاعون، هيئوا لتأسيس موريتانيا من الصفر، وفي مرحلة الدولة الوطنية، ما بعد الاستقلال، كان لأبناءِ تامشكط حضورُهم البارز في تأثيث المشهد السياسي والقيادي الوطني..
الحديث عن السياسة في تامشكط ذو شجون، لتأثيرها في الحوض الغربي عموماً، ومن الموضوعية بمكان تذكير القراء بقادة ووجهاء وساسة تركوا ذكراً طيباً في هذه البقعة، وفي باقي أرجاء الوطن، لكن سخط البعض على تقرير وزارة الداخلية الأخير يجعلني أضربُ صفحاً عن ذكر الأسماء، فحتى ترتيبُ كتابتها في هذه الأسطر قد يُفسرُ تفسيراً غير دقيق.
يتحدث الناس هنا عن هؤلاء الرجال بتقدير واحترام كبيرين، وعن سعيٍهم الدائم في إغاثة الملهوف وإصلاح ذات البين ووحدة الصف التي تأثرت كثيراً برحيلهم، حيث انقسمَ الناسُ تبعاً لانقسامات الأبناء والأحفاد.
المقاطعة العتيقة المحتكرة دائماً من طرف الحزب الحاكم، فقدت معقد عمدة البلدية المركزية في الانتخابات الأخيرة لصالح حزب الاتحاد من اجل الديمقراطية والتقدم الذي ترأسه الوزيرة الناها منت مكناس، والمعروف بحضوره أساساً في مناطق الضفة (6 نواب برلمانيين وعشرات العمد والمستشارين).
اليوم، وفي وقت تستعد المقاطعة لاستقبال الرئيس غزواني لإطلاق الحملة الزراعية من سد لكراير في منطقة افله ذات الخصوصية الكبيرة، يتنادى السياسيون والوجهاء للحضور والتعبئة والحشد..
ولكن السؤال الأبرز، هل ما يزال لدى الوجهاء والأطر نفس التأثير وخصوصا بعد رحيل جيل الوجهاء صاحب الكاريزما القوية والفعالة؟
التحولات المجتمعية في تامشكط وفي الحوض الغربي تظهر أننا قطعنا نصف الطريق نحو الدولة المعاصرة، فشرعية المنجزات وتأثيرها، مع أنها معدومة في شرق البلاد منذ الاستقلال، صار أقوى من تأثير الوجهاء، والمواطن العادي أصبح ميّالاً للاهتمام بالمصالح والمصالح فقط، مع حنينٍ لا تُخطؤه العين للانتماء التقليدي القبلي، برز هذه الأيام في التنافس للظهور بمظهر القوة أمام الرئيس، وأمام "الدولة".
حسب نقاشات هنا مع بعض الأطر، فإن الدولة نفسها ما تزالُ هي صانعة الوجهاء والساسة، بدليل عدم وجود معارضة في المقاطعة.
لاحظتُ كذلك أن "آدوابه" وهم بالعشرات في المقاطعة، أكثر تشبثاً بقبائلهم من سادة القبائل أنفسهم، وأنهم منتظمون في الأطر التقليدية إلى أبعد الحدود، وربما يعود ذلك إلى أن مجموعات "آدوابه" التي يسمونها هنا "لمدان، جمع مَدَن" لم تخضع تاريخياً للاسترق، أو لأن مصالح أهل آدوابه مقدمة لدى "شيخ العامة" على مصالح أبنائه، حسبما علمتُ (ربما في الأمر مبالغة).
دعوني أستنتج استنتاجاً، لا يخلوا من وجاهة، على غير عادة استنتاجاتي: ألا تعتقدون معي أن ولد الغزواني يعتمد مقاربة تجعل القوى التقليدية والوجهاء يجدون ذواتهم حين يعمد إلى تقديرهم وإعطائهم المكانة المعنوية والتعامل الأخلاقي، وفي نفس الوقت ينصب تركيزه على الانحياز للفئات المغبونة والمهمشة تاريخيا؟
وإلا فلماذا استصلح سد "أكراير أهل جدو" ولماذا أختار هذه النقطة النائية في قلب منطقة "افله" حيث يوجد حزام واسع من "ادوابه" لإطلاق الحملة الزراعية؟
دعوني استنتج استنتاجاً آخر، وهو بديهيٌ طبعاً: أليس من الواضح من مقاربة ولد الغزواني أنه يريد أن يخدعنا نحن الناخبين الكبار، حين يُقدرنا ويهتم بنا، ثم يُفصل مشارعه على الناخبين الصغار؟
ما معنى أن ينحاز بشكل لا لبس فيه، للفئات الأكثر هشاشة ويؤمل تحقيق اكتفاء ذاتي؟ هل هيّ أقصرُ الطرق للتعافي المجتمعي؟
الأكيد أن هذه المقاطعة، التي يقدر عدد سكانها بـ 40 ألف نسمة رغم فقرها، ما تزالُ مستعصية على الخطابات السياسية الجديدة، بدليل كون الرئيس بيرام لم يحصل إبان الرئاسيات الماضية، في طول المقاطعة وعرضها، على أكثر من 112 صوتا من قرابة عشرين ألف ناخب.
الأكيد أيضاً أن ساكنتها وقادة الرأي فيها متعففون، بدليل كوننا لم نسمع في يوم من الأيام عن مثلث فقر في هذه المنطقة، أو أن أهل تامشكط لا بواكي لهم على وسائل التواصل الاجتماعي، أو لم يجدوا بعد من يبيع معاناتهم في سوق النخاسة السياسية.
عبد الله اتفغ المختار كاتب صحفى مدير الوكالة الموريتانية للصحافة