البرامج الحوارية من أكثر البرامج شعبية في أوساط النخب المثقفة في العالم ككل، وفي موريتانيا بوجه أخص، لذلك فمن حق المشاهدين والمستمعين والقراء على الصحفي أن يقدم لهم ضيفا مقنعا، ويناقش موضوعا جديرا بالنقاش، فما كل من يحمل رأيا يصلح ليكون ضيفا،
وما كل ضيف يستطيع أن يدافع عن فكرة أو يقدم ما يفيد... تلك من المسلمات المعمول بها في وسائل الإعلام.
ما لفت انتباه المشاهدين في حلقة برنامج "في الصميم" الذي استضاف أحد "الناجين" من "مجزرة إينال" هو أن الصحفي كان أكثر اندفاعا من الضيف، وسعى في أكثر من مرة إلى توجيه دفة الحوار، وتصويب أجوبة الضيف التي لم تخل من تناقضات.
حاول "يوسف جا" الظهور بمظهر الوطني الذي لا يحمل الحقد ضد أي كان، وسرد قصة مبتورة عن واقعة "إينال" التي لسنا هنا بصدد تبرئة أحد منها أو إدانته، لكنه بوسعنا أن تبقى الحقيقة كما هي وتقدم للمشاهد بلا رتوش أو موسيقى تصويرية.
فقد مضى ربع قرن من الزمن على هذا الملف، وتم طيه نهائيا من طرف الدولة وأولياء الدم الذين لا يوجد من بينهم يوسف جا ولا أحمد الوديعة، وتولت الحكومة جبر الأضرار والتعويض لذوي القتلى أو المفقودين، وهو تعويض واعتذار لم يحصل عليه ضحايا حرب الصحراء، ولا معتقلي التيارات القومية في موريتانيا الذين مات بعضهم تحت التعذيب في سجون نواكشوط وأطار..
لقد فتح تحرير الفضاء السمعي البصري الباب واسعا أمام من هب ودب لاعتلاء المنابر وتوزيع التهم والشتائم بعدالة على الجميع، لكن هذه الحرية غير المسبوقة في تاريخ البلاد لا تعفي الصحفيين من مسؤوليتهم الأخلاقية والدينية، فمن المعروف في أبجديات الإعلام أن أي خبر قد يلحق الضرر بالسلم الأهلي أو يعرض حياة شخص للخطر يحظر نشره تحت أي ظرف.
إن اجترار الماضي بهذه الطريقة وإذكاء النعرات وتأجيج الفتن والأحقاد ليس من مهام الصحفي أي صحفي بغض النظر عن انتماءه، ولو أن برنامج في الصميم هذا أذيع في تركيا مثلا واستضاف أحد الناجين من مذابح الأرمن أو الأكراد لكان للسلطة التركية تعامل آخر مع المعد والمقدم والقناة.
تماما كما لا تجرؤ قناة "الجزيرة" في قطر على استضافة أي معارض قطري أو الحديث عن الشاعر الذيب المحكوم عليه بالسجن 20 عاما في الدوحة..
وإذا عبرنا المتوسط في اتجاه أوروبا "المتنورة" فلا يمكن لأي قناة فرنسية أن تستضيف أي انفصالي فرنسي ولا أي شخص يمكن أن ينفض الغبار عن سنوات القتل والتصفيات التي تعرض لها الفرنسيون عقب الثورة، أو الحديث عن التجارب النووية والإعدامات التي نفذها الاستعمار في الجزائر على سبيل المثال لا الحصر.
ليس هذا تبريرا لما حصل أو دفاعا عن من ارتكب جرما في حق أي كان، لكن للتحقيق في هذه القضايا ورفع الدعاوى ضد المتورطين فيها طرقه الخاصة وأساليبه القانونية المعمول بها..
أما الإعلام فله أهداف أخرى أنبل واشرف من إذكاء النعرات وتأجيج نار الأحقاد والكراهية.