لن يعيدَ التَّاريخُ نفسه بل ينتج الواقع صورة مُحدَثة تقرِّب للماضي بما تطوّر خِفية عن أنظار الولايات المتحدة الأمريكية لعدم الاهتمام به لظنها أن الأمر انتهى بغياب أبديّ للزعيم معمر القذافي ، لكن روسيا اعتنت وفاوضت ونجحت لحد بعيد في احتضان ما يشكل عائقاً لا بأس به يعكِّر جوّ ما أرادت الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها تطبيقه كمخطط زاحف على استحواذ ما يؤدي لجعل ليبيا من ببن خدامها الطائعين كدولة غنية بأم الثروات من جهة ، وما تمثله من مدخل رئيسي للقارة الإفريقية ، مَن ملكه فُسح له مجال التحكُّم في مصائر أغلبية الدول المجاورة نصف القوية والضعيفة على حد سواء ، ولها من الأراضي العذراء الشاسعة ما يؤهلها لتصبح مُستقراً مثاليا لإعادة تجربة الغرب الأوربي حينما أباد الهنود الحمر ليحلّ مكانهم في تلك الأراضي المسماة آنيا أمريكا بفرعيها ، طبعاً لا تُنزّه روسيا عن نفس المبتغى وإن كان مُغاير الأهداف لحدٍ ما ، حتى وإن تبنّت القذافي الصغير وتحمَّست لحمايته بما يلزم من قوة خبراء أمن مدربين على أعلى مستوى من التدخل السريع وكأن المعني حمولة معدن ثمين تبتاع به الكرملين ليبيا بغربها وشرقها ، المحاولات التي بدلتها وزارة الخارجية في "الحكومة" الليبية الحالية لإخراج المرتزقة وكل القوات العسكرية الأجنبية من فوق التراب الليبي لتمر انتخابات 24 من هذا الشهر في سلام ، مجرد أضغاث أحلام تبددها "العبارات / الكمين" المتضمِّنة كلمات "الالتزام الزمني الملزم للجميع المرتبط أساساً بتحقيق ذاك الجلاء" ، لا أحد سيغادر شهية هؤلاء جميعهم دون استثناء ، شملت الاجتهاد لتحصين مواقع احتلوها بتوافق مع الليبيين أو رغماً عنهم ، وإن اجل قادتهم أي صراع مسلح ، فالأمر عائد إلى ضمان الاكتفاء الذاتي من عتاد وعدد وعدة وإعداد ، أكان المصدر تركي أو فرنسي أو روسي أو أمريكي أو إيطالي أو إماراتي أو مصري .
... الرئيس بايدن وهو يعقد مؤتمر ديمقراطيته الخاصة يرتكب ما يؤخر أمريكا عن ريادتها لأي ديمقراطية تحل محل القديمة ، بإقرار أن الأخيرة لم تستطع التكيف مع نظم الحكم المسيطرة معظمها على الدول مهما كان الاتجاه الجغرافي ، بل شكلت عنصراً إديلوجيا لاقتحام عوالم بلاد مستقلة ذات سيادة ، في تناقض بَيِّنٍ لما تبشِّر به من حلول اعتماد على تطبيق نصوص حقوق الإنسان مهما المجال كان ، وذاك الترخيص الغريب الممنوح لمن مارسوا الاستبداد المقيت على شعوب تلك البلاد كما فعلت أمريكا نفسها المدعية بكونها الراعية الأولى للديمقراطية اتجاه دول بعينها نقتصر بذكر اثنين منها ، المملكة العربية السعودية وإسرائيل . القضية ليس جوهرها فيما وقع يوم الخامس من يناير باقتحام بعض المشاغبين مقر الكونغرس الأمريكي ، وإنما بأخرى تدعو في العمق إلى تسخير التشريع لإضافة قوانين تدبيرية جديدة تمكن الحكام من استعمال كل أشكال القوة للسيطرة علي محيط أنظمتهم مبرِّربن الفاعل بضمان الاستقرار. ممّأ يؤشر لبزوغ فجر "العصا لمن عصى" تتمكن من خلاله أمريكا بصورة أدق للتدخل المباشر في قضايا العديد من الدول المغلوبة على أمرها لأسباب معروفة وعلى رأسها ليبيا ، التي سبق مؤتمر بايدن للديمقراطية موعد انتخابات الرابع والعشرين من ديسمبر الجاري إن تمت فيها ولم يكن ذلك اعتباطا .
... ما يدعو للشفقة منظر بعض معارضي أنظمة أوطانهم وهم يتسوَّلون أي فرصة ظهور للإعلان عن وجودهم في واشنطون لإطلاق صراخ ظنوا به تحقيق زحزحة تلك الأنظمة من مكانها بمساعدة الديمقراطية الأمريكية ، متناسين أن الإدارة الأمريكية تبارك نفس الأنظمة ، بل تمدّها بالعون المادي والمعنوي ، فعلى أي أساس شيَّد الرئيس السابق لتونس طلبه الغير المباشر لتقف الحكومة الأمريكية الديمقراطية في وجه قيص سعيد ، مُكرِّراً نفس الطلب الذي وجَّهه في باريس إلي الرئيس ماكرون ، وهو من المفروض أن يعلم أنَّ فرنسا راضية عما يجري في تونس ، بل تساند ذاك الدكتاتور الجديد بما أتي به بدعة تصفع الديمقراطية حيال ديمقراطيي العالم دون أن يحرك أحد منهم ساكناً ، حتى الولايات المتحدة الأمريكية أم الديمقراطية المتجاوزة بدءا من انعقاد ذاك المؤتمر ، يقضي حرصها على إنجاح مخططها المُعدّ بعناية قصوى من أجل الانقضاض بتقنية غير مسبوقة على ليبيا ، الانتخابات فيها مجرَّد خيط مجرور بالفائز فيها كي يقوم بمسؤوليته وراء الكواليس المتَّفق من قبل على تلقي الأوامر والتعليمات من البيت الأبيض ، وفي ذلك تتجلى حقيقة أن ليبيا ضاعت إن لم تقع معجزة تخرجها من بين أنياب المفترس الديمقراطي القديم ، قد يلعب ابن القذافي الشوط الذي تضيفه روسيا متحدية الأطماع الأمريكية ، لكن مواجهتها الوشيكة مع أكرانيا قد تكون سببا لتعطيل انتخابات 24 ديسمبر 2021 كموقف مؤقت ، وإن حصل هذا بالفعل تكون روسيا قد تغلغلت قولاً وفعلاً في الشأن الليبي ، وآنذاك لا مفرّ من نشوب حرب بين المتدخلين الأجانب فيما بينهم ، وما ينشب عن ذلك من مآسي كبرى تعرفها ليبيا بلداً وشعباً .
مصطفى منيغ