عودتنا النخب السياسية والإعلامية في هذه البلاد على أن لا تفكر ولا تكتب ولا تتحدث إلا في إطار ردود الأفعال، ولذا فقد توقف الحديث ـ وبشكل شبه كامل ـ عن الجريمة في أيامنا هذه، وذلك بعد أن كان الحديث عنها هو الشغل الشاغل للجميع خلال الأيام والأسابيع الماضية، والتي كانت قد شهدت ـ وللأسف الشديد ـ بعض الجرائم الصادمة التي هزت المجتمع بأكمله.
هكذا جرت العادة عندنا في هذه البلاد: نتحدث عن الجريمة بشكل واسع عندما تقع جريمة صادمة ثم ننسى الموضوع نهائيا في انتظار حدوث جريمة أخرى.. نتحدث عن حوادث السير عندما يقع حادث سير بشع ثم ننسى الموضوع نهائيا في انتظار حادث سير آخر، وهكذا...
من المؤكد بأننا خلال الأسابيع القادمة، ومع موسم تهاطل الأمطار، سنتذكر من جديد عدم وجود صرف صحي في العاصمة نواكشوط، وسترتفع الأصوات مطالبة بوضع آليات للتدخل السريع لصالح المدن والقرى التي قد تتضرر من الأمطار والسيول..ستتجدد تلك الأحاديث في موسم الخريف القادم، ولكننا سننسى من جديد هذه المواضيع خلال فصلي الشتاء والصيف القادمين، ولن نتذكرها إلا مع موسم خريف جديد.
هكذا عودتنا نخبنا السياسية والإعلامية على أنها لا تفكر ولا تتحدث ولا تكتب إلا في إطار ردود الأفعال، ولذا فقد كان من الطبيعي جدا أن تنسى هذه النخب ملف الجريمة في أيامنا هذه، والتي أنعم الله علينا فيها بعدم تسجيل جريمة صادمة تهز المجتمع، وتستنفر الرأي العام.
نعم لقد مرت بنا ـ ولله الحمد ـ أيام هادئة بعد أيام صعبة شهدت جرائم صادمة في مقاطعة "توجنين" ومدينة "نواذيبو".
صحيح أن الأجهزة الأمنية قامت في الأيام الأخيرة بعمل جيد، قد يكون هو الذي ساعد في هذا الهدوء الذي نعيشه في أيامنا هذه ولله الحمد، ولكن هذا الهدوء قد لا يستمر طويلا، فحدوث جريمة صادمة سيبقى متوقعا في كل حين.
بالفعل لقد قامت الأجهزة الأمنية بعمل جيد خلال الأيام والأسابيع الماضية، ويظهر ذلك العمل الجيد من خلال احتجاز ومصادرة كميات كبيرة من المخدرات وتوقيف بعض مصنعيها وموزعيها ومروجيها، ومن المعروف بأن متعاطي المخدرات من القصر والشباب هم من يقف وراء أغلب الجرائم البشعة التي يتم تسجيلها في البلاد. كما أن من مظاهر هذا العمل الجيد إطلاق الشرطة الوطنية لصفحة نشطة على الفيسبوك تنشر أولا بأول كل الجرائم التي يتم تسجيلها، ولقد ساهمت هذه الصفحة في الحد من الشائعات ومن عمليات النفخ والتضخيم التي كانت تُصاحب كل جريمة تقع.
إن أفضل وأنجع طريقة لمواجهة الشائعات تتمثل في المسارعة في نشر المعلومة الصحيحة من طرف الجهات الرسمية المختصة، وهذا ما تأكد في مجال الشائعات المتعلقة بالجرائم بعد أن أصبحت للشرطة الوطنية صفحة نشطة على الفيسبوك تسارع في نشر أخبار الجرائم، كما تأكد من قبل ذلك في مجال الإصابات بكوفيدـ 19، والتي شهدت هي أيضا الكثير من الشائعات مع بداية ظهور كورونا، ولم تتوقف تلك الشائعات إلا بعد أن قررت وزارة الصحة تنظيم مؤتمر صحفي يقدم يوميا حصيلة الإصابات.
ذلك قوسٌ كان لابد من فتحه لتأكيد أهمية نشر المعلومات الصحيحة من طرف الجهات الرسمية المعنية للمساهمة في الحد من الشائعات في مجتمع كمجتمعنا ميَّال بطبعه إلى تصديق الشائعات وترويجها بشكل واسع.
لنغلق الآن القوس المتعلق بالشائعات وآليات الحد منها، ولنعد إلى أهمية مناقشة الملفات والقضايا الشائكة من طرف أهل الاختصاص في الأوقات الهادئة، فنقاش تلك القضايا من طرف أهل الاختصاص في مثل تلك الأوقات سيكون بكل تأكيد مفيدا، وسيكون مظنة للخروج بأفكار ومقترحات أكثر جدية وأقرب إلى الموضوعية.
وفي هذا الإطار فقد نظمنا في "جمعية خطوة للتنمية الذاتية" في يوم السبت الموافق 10 يوليو 2021 بالعاصمة نواكشوط جلسة نقاشية تحت عنوان " التحدي الأمني وآليات مواجهته".
الجلسة حضرها أساتذة جامعيون ونشطاء جمعويون وخبراء وباحثون في مجال الأمن والقضاء والقانون والإعلام. المشاركون في الجلسة تقدموا بجملة من المقترحات والتوصيات كان من أبرزها:
ـ خلق آلية اجتماعية لإشراك المواطن في الحفاظ على الأمن؛
ـ فرض إلزامية التعليم وإعادة الاعتبار للمدرسة، مع التكفل بأبناء الأسر ذات الدخل المحدود؛
ـ إنشاء مراكز خاصة بعلاج الإدمان؛
ـ إنشاء حاضنات ثقافية ورياضية للشباب؛
ـ التعامل الجاد مع كل أشكال الغبن والتهميش وكل مظاهر غياب العدالة؛
ـ ضرورة مشاركة المجتمع، وخصوصا نخبه، في مجال التوعية والتحسيس ضد الجريمة؛
ـ تحيين الترسانة القانونية، والعمل على تعزيز قدرات الكادر البشري في سلك القضاء وأعوانه؛
ـ تفعيل عمل المؤسسات الإصلاحية من أجل دمج الشباب ذوي السوابق الجنائية في الحياة النشطة؛
ـ تفعيل التجنيد الإجباري والخدمة المدنية؛
ـ إنشاء مرصد للجريمة وتحسين آليات الإحصاء المتعلقة بالجريمة، وتمكين استفادة الباحثين منها؛
ـ تعزيز مراقبة الحدود، ومراجعة بعض حالات الدخول إلى البلاد دون تأشيرة؛
ـ إنشاء شرطة الجوار؛
ـ تعزيز قدرات الأجهزة الأمنية وتشجيع التخصصات؛
ـ إنشاء معهد يعني بالطب الشرعي والأدلة الجنائية؛
ـ وقف تعطيل الأحكام القضائية والصرامة في تنفيذ تلك الأحكام؛
ـ إشراك مراكز البحث في إعداد السياسات الاستشرافية المتعلقة بالمصالح الحيوية للبلد.
حفظ الله موريتانيا..