إن الخوف الذي يلازمنا بشأن مستقبلنا السياسي يحتم علينا أخذ جرعة من التفكير العميق في أبعاد العملية السياسية التي يبدو أننا دخلناها مغيبي العقول ومازلنا ندور في فلك ضياعها السرمدي.. فخسارتنا الدائمة لتلك اللحظة المثالية التي يكون فيها الفعل السياسي ملائما تماما ومنسجما مع الأهداف الإستراتجية الكبرى للأمة جعلتنا نقع في النصف الخالي من الدائرة .. فكيف وصلنا إليه بل كيف اخترقتنا الشكوك وتسربت إلى كل شيء .!
يقول نتشيه : "إن معرفة الحقيقة تستدعي التزام الصمت وقتا كافيا .. لكنه في المقابل لا يجوز لنا أن نعرف الحقيقة بصورة عابرة ".
إننا لم نعد قادرين على المزيد من الصمت ونحن محاصرون بين كثبان وطن من الأطماع المتحركة .!
فحالة الصراع المستفحل بين أجنحة النظام تشي بمزيد من التأزم وتنذر بتعطيل المشروع الإصلاحي الذي آمنا به وناضلنا من أجل تحقيقه، فلم يعد لدينا شك في وجود أيادي شيطانية تعبث بما حققته البلاد خلال السنوات الماضية ، وقد انعكست تلك الصراعات العبثية على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وتجاوزت هذه الصراعات العقيمة التنظيم السياسي الحزبي الذي عادة ما يكون مسرحا لهذا النوع من الصراعات إلى الجهاز التنفيذي ـ الحكومي ـ وهي حالة وبائية أثرت على كل شيء حتى بات العمل الحكومي معطلا ، بل انسحبت الحكومة من الحياة العامة للمواطنين ، ولم يعد أحد يمكنه التهرب من تحمل المسؤولية أمام هذا الواقع الصارخ في وجه طبقتنا السياسية التي عجزت عن قطف تفاحة الأمل.. فكلما نضجت تلك التفاحة تم إسقاطها وتقاتل الفرسان عليها ونحن متفرجون ننتظر نهاية المعركة .
في الحقيقة هناك شعوب لا تختار بنفسها ولذا لا يكون أمام أبنائها سوى تصديق الشعارات في كل مرحلة فالخيارات محدودة غالبا..!
إن مُخرجي مسرحيتنا السيزيفية مشفقون علينا إلى درجة لا يمكن تخيلها، ربما لأنهم يعلمون تعلقنا بالمستقبل الذي دائما ما يأتي على حين غفلة ودون تخطيط استراتجي محكم البنيان .
إن الهدف الأساسي الذي يسعون إليه هو : تغييبُ الرئيس عن الحقيقة وغمرُ مكتبه بالتقارير الكاذبة ، وفي مثل هذه الظروف يتوقف التقدم وتكون النتيجة حالة من الفوضى العارمة والشكوك المحبطة في إمكانية نجاح المشروع الذي آمنا به .. فكيف لمقاتل أن يعري صدره لمواجهة الخصوم حينما ينتابه أدنى شك في جدية من هم في الخطوط الأمامية..!
إنما لا يدركه مختلقوا الصراع أن المشروع الذي جاء به الرئيس ولد عبد العزيز لم يعد ملكا شخصيا له أحرى أن يكون ملكا لهم ، فقد احتضنه الشعب والتف حوله ليجعل منه بارقةَ أمل وجسرا للعبور نحو المستقبل الذي ظل يلوح لنا دون أن نلامسه لعقود من الزمن، إنهم مخطئون تماما حين يراودهم أدنى شك في القفز على رقابنا نحن جيل التغيير البناء .
إن الأولوية في هذه المرحلة تستدعي مواجهة خصوم النظام في "الداخل" الذين باتوا أكثر خطرا من الخصوم التقليدين في المعارضة ،ولن يكون ذلك إلا عن طريق كشفهم وتعريتهم على حقيقتهم وندعوا الجميع إلى المساهمة بشكل قوي وعفوي وصادق وصادم حتى ننقذ النظام ونخرج المفسدين من صفوفنا .
شيطنة الأنظمة تبدأ من داخلها..!
لقد كان معاوية ولد الطايع يثق ثقة لا حدود لها في بعض رموز نظامه لأكثر من عشرين سنة ، غير أن أحداث انقلاب 2003 جعلت معاوية يدرك - بعد أن داهمته الحقيقة - أن القائد لا يضع وسادة تحت قلبه ولا يهدأ له بال لأنه دوما على ناصية شارع نصف مهجور.. لذا قرر أن يذل من أودعهم ثقته وخانوها أيما إذلال ، فاختار أن يكون انتقامه بحضور الكثير من الشهود فعقد الحزب الجمهوري مؤتمرا طارئا تم خلاله طرد بعض رموز النظام وفي نفس الوقت تم تجريدهم من وظائفهم وكان من ضمنهم مدير ديوانه لأكثر من عشرين سنة.. فكان الجميع يهرب من وجوههم مخافة أن ترصده عيون معاوية وهو يتعاطف مع المغضوب عليهم .. كان ذلك كافيا ليعلم الجميع أنه لم يعد أحد خارج دائرة العقاب .
لكن مأساة ولد الطايع أنه لم يفتح عينيه إلا عندما ابتلعته كثبان الخيانة وحاصره سدنة حجب الحقيقة من معظم المحيطين به .. فهل لابد أن ينفجر الوضع أو يتجه نحو المجهول كي نستفيق سيدي الرئيس ..؟
إن سياسة حجب الحقيقة التي يعمد إليها البعض ليحمي وظيفته أو مكانته داخل النظام تتنافي مع الأخلاق السياسية .
يقول هيكل: إن العلاقة بين المثقف والحاكم تستدعي استحضار العلاقة بين رجال من أمثال : أرسطو والإسكندر الأكبر ، والعلاقة بين ميكافيلي والأمير لرونزو الكبير، وعلاقة فولتر بالإمبراطور فريديريك .. بمعنى أن العلاقة بين رجل النظام والحاكم علاقة إرشاد وكشف للحقيقة ومصارحة وصدق، وليست علاقة موظف مع رب عمله ينتظر منها مرتبا آخر الشهر .
إن الظلم السياسي يجافي طبيعة الإنسان كما يقول ابن خلدون ، وفي الحقيقة لا يوجد ظلم أكبر وأشنع وأبشع من خيانة المسؤولية والتخندق لحساب النزوات الشخصية والمصالح الضيقة.
ميكافيلي : حذر الأمير لرونزو من صراع الأجنحة لأنه ينحو دائما في اتجاه الحسابات الضيقة للجهة أو القبيلة أو الطائفة ولا شك أنه مهلك للدولة والنظام ، وقد أفرد لذلك صفحات في كتابه "الأمير" الذي يعتبر من أقدم الوثائق السياسية عبر التاريخ.
إن تجاربنا المثيرة للسخرية علمتنا أن معظم الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد كانت نهايتها تأتي من داخلها، بمعنى أن فرسان حصان طروادة لا يتغيرون وإنما يستبدلون أقنعتهم ويضعون بعض المساحيق لإخفاء ملامحهم ثم يرفعون شعاراتهم عاليا فنلتف حولهم بالزغاريد والتهليل وينطلق الحصان في عباب بحر من الأمواج البشرية المأخوذة بأسر اللحظة وحجم المفاجئة .
وفي المساء نتابعهم يلهثون من منبر إلى آخر لحرق تاريخ كانوا جزءا منه .. إنها سخرية الأقدار منا ..!
وإن ما نخشاه فعلا أن نطير على أجنحة صقور الصراع الحالي نحو المجهول حينها سيدرك الجميع حجم الكارثة المؤلمة ِ
يتواصل..