من المعلوم أن للموريتانيين مشتركاتٍ عديدةً، تتعلق-من بين أمور أخرى- بالعقيدة والدين والمذهب والثقافة واللغة والعادات والتقاليد وأنماط العيش، لكنني سأركز هنا على الدين الإسلامي واللغة العربية (لغة القرآن الكريم).
ينبغي التذكير-في هذا المجال-بأن مكونات المجتمع الموريتاني كانت تعيش قبل قيام الدولة الحديثة في انسجام وتناغم واحترام متبادَل.
ولعل ذلك نابع من اقتناع الناس كافةً بتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف؛ ففي القرآن الكريم: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)؛ وفي الحديث النبويّ الشريف: "لا فضل لعربيّ على عجميّ إلّا بالتقوى".
أشير أيضًا إلى أنّ الرواد المؤسسين للدول الحديثة، عُروبيين كانوا أو أفارقةً، لم يكونوا عنصريين.
ولعل ما يطفو على السطح-بين الفينة والأخرى- من أصوات نشاز تعزف على وتَر العنصرية والفئوية والشرائحية، كان مدفوعا من الخارج، في إطار ما يُعرَف بسياسة "فَرِّقْ تَسُدْ". ويجب التصدي لهذه النزعات والأفكار الهدامة، فنحن أمة واحدة ذات ماض مشترك مشرق، وحاضر يبعث على الأمل، ومستقبل واعد بإذن الله.
مع التذكير بأهمية تقوية الوحدة الوطنية، بنشر ثقافة التسامح والاحترام المتبادل بين مختلِف شرائح المجتمع، والقضاء على الظلم والتهميش. مع العمل على تقليص الهوة المتعلقة بالفوارق الاجتماعية، ومعالجة مخلفات الرق، وكل ما يتعلق باستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
وتُعَدّ العربية عاملًا حاسمًا في الوحدة الوطنية لشعب مسلم، فنحن مسلمون جميعا، لله الحمد، والعربية مُعِينة لنا على تأدية شعائرنا الدينية، بل إنها ضرورية لممارسة هذه الشعائر بطريقة صحيحة. وما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب.
ينبغي للإخوة- من أصول غير عربية- أن يتعلموا اللغة العربية بصفتها اللغة الجامعة الموحِّدة، واللغة الرسمية (بنص الدستور الموريتانيّ).
ولكن ذلك يقتضي تدريس المواد باللغة العربية، وأن يكون الأمر بكيفية تدريجية.
والأمل معقود على توجه الدولة حاليا نحو ما يسمى "المدرسة الجمهورية".
كما ينبغي للعرب أن يتعلموا شيئا من اللهجات الوطنية غير العربية. وعلى المواطنين جميعًا أن يدركوا أنّ الفرنسية لغة أجنبية بالنسبة إلى جميع مكونات المجتمع الموريتاني.
ولقد آن الأوان للتخلص من عقدة ربط استعمال اللغة العربية بتهميش الإخوة من أصل غير عربيّ؛ ففي ذلك مغالطة كبيرة. تبرز الأعراض "المرضية" لهذه العقدة، في كل مرة يُطرَح فيها تفعيل المادة السادسة من الدستور التي تنص على أن العربية هي اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية !
يبدو لي أنّ المشكلة تكمن في غياب القرار السياسي الذي يجب أن يُتّخذ في هذا الموضوع.
ثم إن العديد من المتحدثين بلغات غير عربية، يفهمون الحسّانيّة، وهي أحَد مستويات اللغة العربية.
بمعنى أنّ مَن يفهم "الحَسّانيّة"، سيفهم اللغة العربية الفصحى بكل سهولة.
ويمكن بالنسبة إلى الاجتماعات والمؤتمرات والندوات أن نؤمِّن الترجمة، عند الحاجة، من العربية إلى اللغات الوطنية (غير العربية)، ومن اللغات الوطنية (غير العربية) إلى العربية، حتى نتغلب على هذه المشكلة.
ولن يتأتّى ذلك إلّا باستعمال اللغة العربية في التعليم (بجميع مراحله وأنواعه)، وفي الإدارة، وفي سائر المرافق الحيوية للدولة. مع تحديد فترة زمنية مناسبة لتتم عملية التعريب.
يضاف إلى ما سبق أنّ إخوتنا في الإسلام والوطن والإنسانية (من أصل غير عربيّ) الذين يتكلمون اللغة العربية ولا يعرفون الفرنسية (وهم كُثُرٌ، ومن بينهم علماء وفقهاء وأدباء وشعراء..) مهمَّشون بالنسبة إلى التعيين في الوظائف الحكومية والإدارية، كغيرهم من العرب الذين لا يعرفون الفرنسية، وهذا أمر غير معقول وغير عادل.
أي أننا في المحصِّلة النهائية، سنجد أنّ معظم المواطنين الموريتانيين-عربًا كانوا أو غيرَ عربٍ- مظلومون في هذه القضية.
وبالنسبة إلى اللغة (أيّ لغة)، فأود أن أذكّر بأن اللغة ليست أصواتًا يُعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم فحسْب-كما عرّفها ابنُ جني وغيرُه من القدماء-وليست أيضًا أداةً للتواصل بين الجماعات والشعوب فقط، كما يَجيء في تعريفات أخرى، لكنها مع ما تقدم من تعريف، ترتبط ارتباطا وثيقا بالفكر والعقل والشعور وخلجات النفْس، وهي بذلك هُوية الإنسان ووعاءُ فكرِه وتراثِه، وسِجِلُّ تاريخه.
إنّ التعليم باللغة العربية، ليس استجابةً للمشاعر القومية/ الوطنية فحسْب، لكنه أيضًا استجابة للحقائق التربوية التي أثبتت أنّ تعليم الإنسان بلغته أقوى مردودًا وأبعدُ أثَرًا وأنّه أحفل بالنتائج الخيِّرة من الناحيتين الكَمّية والكيفية.
تتنبأ الدراسات الإستراتيجية الحديثة بأن اللغة العربية ستكون ضمن اللغات الخمس العملاقة في العالم، بحلول العام (2050م). ومع ذلك، فإننا نجد بعض الأشخاص، المحسوبين على جهات معادية للغة العربية، ينادون بضرورة الاستمرار في تدريس المواد العلمية باللغة الأجنبية، متذرعين بأن اللغة العربية غير قادرة على القيام بهذه المَهمة.
وممّا يُؤسَف له أنّ أصحابَ هذه الدعوة المضللة، يجدون آذانا صاغية لدى معظم أصحاب القرار، في الوطن العربي، الذين ما زالوا يترددون ويتخوفون من الإقدام على تعريب التعليم الجامعيّ، متوجسين خيفة ممّا قد يترتب على ذلك من تعقيدات، في الوقت الذي يؤكد فيه أصحاب الاختصاص أنّ هذا التخوف ليس في محله ولا مسَوِّغ له إطلاقا، لأنّ اللغة العربية قادرة بكل جدارة على نقل العلوم والمعارف ومواكبة العصر.
وتُفِيدُ بعض الخُلاصات العِلميّة التي تَوصًّلَ إليها بعض الباحثين، بأنّ غالبيّة اللغات تَحمِل في ذاتِها عَوامِلَ مَوتها إلّا اللغة العربية؛ فحَسَبَ هذه المعلومات، فإنّ نهاية القرن الحالي (الحادي والعشرين) ستشهَدُ مَوتَ العديد من اللغات، ليس من ضمنها: العربية والإنجليزية والصينية.
إنّ اللغة تقوى بقوّة أهلها وتضعف بضعفهم، ثم إنها كائن حيّ تعتريه أحوال القوة والضعف والصحة والمرض والموت. وهي كذلك كالعضو الحيّ يقوى وينمو بالاستعمال ويضعف بل يموت بالإهمال، إن هو ظل معطَّلًا عن العمل، وهنا تكمن ضرورة إحلال اللغة العربية محل اللغات الأجنبية التي زاحمتها في أوطانها إبّانَ الاحتلال الأجنبيّ الذي خرج بجيوشه العسكرية وترك لغته تهيمن على القطاعات الحيوية في معظم بلداننا العربية حتى يومنا هذا.
إن لغتنا العربية الجميلة لغة حية، ضاربة بجذورها في التاريخ وتفتح صدرها لكل جديد، حملت مشعل الحضارة الإنسانية دون انقطاع، وهي اليوم لغة رسمية في منظمة الأمم المتحدة إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والروسية والصينية.
ولا شك أن ترسيم اللغة العربية في الأمم المتحدة ضمن ست لغات فقط من ستة آلاف لغة في العالم، لهو خير دليل على أنها لغة عالمية بكل المقاييس.
وبالنظر إلى معطيات الحاضر، فإن اللغة العربية تنتشر بسرعة في مختلف المجالات واهتمام العالم بها يزداد يوما بعد يوم.
إننا نطالب بالتمكين للغة، بإعادة الاعتبار إليها، وجعل المواطن العربيّ يشعر بأهميتها وبحاجته إليها، وبأنها توفر له لقمة العيش من خلال العمل بها واستخدامها في حياته اليومية، واتخاذ قرار سياسي حاسم وملزم بأن تكون العربية لغة التعليم (بجميع أنواعه ومستوياته)، ولغة الإدارة وسائر المرافق الحيوية للدولة. مع وضع خُطة مدروسة لتعريب التعليم الجامعيّ.
ولعل من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها المسؤولون عن التعليم، توقف عملية التدريس باللغة العربية عند مستوى الثانوية العامة (البكالوريا)، الأمر الذي ترتّبَ عليه أنّ الطلاب يعيشون محنة حقيقية تتمثل في أنهم يتلقوْن دروسهم باللغة العربية –وهو أمر طبيعيّ- إلى أن يحصلوا على شهادة الثانوية العامة، وعندما يصلون إلى التعليم الجامعيّ يصطدمون بأن المواد العلمية غيرُ معرّبة فيجدون أنفسهم بين خيارين أحلاهما مُرّ: التوجه إلى التخصصات الأدبية المعرّبة والتضحية بطموحهم العلميّ، أو محاولة الدراسة في التخصصات العلمية التي تُدرَّس بلغة أجنبية زادُهم منها قليل، في أغلب الأحوال، مما يترتب عليه فشلهم في دراستهم أو تعثُّرهم فيها على الأقل. أما التفوق - المُفضي إلى الإبداع - فلا أمل فيه بسبب الحاجز اللغويّ.
يكمن حل هذه المشكلة، بكل بساطة، في تعريب التعليم الجامعيّ بكيفية تدريجية، مع الاهتمام بالترجمة، وتدريس اللغة الأجنبية التي يقع عليها اختيارهم بصفتها لغة أجنبية لا بصفتها لغة تدريس أو لغة إدارة، والفرق شاسع بين الأمريْن.
إنّ مشكلتنا الرئيسة في الوطن العربيّ-وموريتانيا جزء منه-أننا ظننا أننا يمكن أن ننهض ونتقدم باستعمال لغات الآخرين، مع أنّ الدول التي درست العلوم و المعارف بلغاتها تقدمت وازدهرت، والدول التي تمسكت بلغة المستعمر ما زالت تئِنّ تحت وطأة الجهل والفقر والمرض.
والخطير في الأمر أنّ أصحاب القرار عندنا غير مقتنعين بهذه الحقيقة المجرَّبة والمؤكدة علميا!
ثم إننا بحاجة إلى إصدار قوانين لحماية لغتنا العربية. لقد استطاعت دولة بمفردها، وهي فرنسا-على سبيل المثال- أن تُصدِر قوانين تحمي لغتها، فكيف تعجز اثنتان وعشرون (22) دولة عربية عن إصدار قوانين تحمي لغتها الرسمية، بنص دساتيرها ؟!
في خِضمّ التحديات الهائلة التي تواجهها لغة الضاد في زمن العَوْلَمَةِ، يتحتم على الدول العربية أن تسارع-دون تأخير- إلى إصدار قوانين صارمة (يُعاقَب المخالفُون لمقتضياتها).
تتضمن هذه القوانين- من بين أمور أخرى- ما يأتي:
1-اعتماد العربية لغة للإدارة في جميع المرافق الحكومية والدوائر الرسمية، ولغة للتعليم، في جميع مراحله وأنواعه، وفي وثائق ومداولات القطاعيْن العام والخاص، والعمل على سلامتها نحوًا وصرفًا وإملاءً وأسلوبًا... ، وإنشاء أجهزة في الوزارات والدوائر الحكومية لهذا الغرض (العناية بسلامة اللغة العربية).
2-التزام وسائل الإعلام والنشر بسلامتها واستعمال الفصيح منها، وعدم استعمال العامية لغير ضرورة (والضرورة تقدَّر بقدرها)، وتقريب العامية من الفصحى، في هذه الحالة (ما يُعرَف بدارجة المثقفين).
3-كتابة البيانات التجارية واللافتات ونحو ذلك بلغة عربية فصيحة.
4- الفصْل التامّ بين التدريس باللغة الأجنبية وبين تعلُّمها، فالأول مرفوض لأنه يلغي اللغة الرسمية ويهمّشها ويمنع المتعلمين بها من الاندماج في سوق العمل، والثاني مطلوب ومرغوب فيه لأنه يساعد على التفاهم بيُسْر والتواصل المباشر مع المتحدثين بهذه اللغة الأجنبية والاطلاع على الكتب والبحوث المنشورة بها. والله وليّ التوفيق.