هز فايروس (كورونا) العالم بعنف، وأخذ تلابيبه بقوة، فأثار موجة من الهلع، ونوبة من الفزع، تجاوزت تداعياتها المجالات الصحية، إلى مختلف المجالات الأخرى.. الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، الرياضية، والاجتماعية، وغيرها.
وما زال هذا الوباء يفتك كل ساعة بمزيد من الضحايا، ويدخل كل يوم مزيدا من الدول!!
(كورونا) كما يقول الخبراء وباء شرير، ومرض خطير، وما ظهر حتى الآن من آثاره ما هو إلا جزء يسير .. وقانا الله وإياكم شر كل ذي شر.
الإسلام له رؤيته المتميزة لكل المصائب التي تنزل بالعباد، والشرور التي تحل بالبلاد، ومنها الأمراض، والأوبئة، وله رؤيته في معرفة أسبابها، والوقاية منها قبل حلولها، وعلاجها بعد نزولها، والموقف الذي ينبغي تجاهها.
وهذا ما سنحاول توضيحه من خلال الوقفات المختصرة التالية مع (كورونا):
الوقفة الأولى: كورونا بما كسبت أيدينا
يقرر القرآن الكريم بوضوح لا لبس فيه أن ما يصيب الناس من بلاء ومصائب، وينزل بهم من شرور ونوائب هو عقوبة دنيوية من الله تعالى لهم على بعض معاصيهم وسيئاتهم.
قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
فما يصيب البلاد والعباد من المصائب والنوائب هو عقوبة إلهية على بعض ما كسبت أيدي الناس، وليس كل ما كسبت، فكثير من تلك المعاصي والسيئات يعفو الله عز وجل عنه {ويعفو عن كثير}.
ولو أخذ الله الناس بكل ما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة!!
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}
وهذه الحقيقة يؤكدها صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما نقَضَ قَوْمٌ العَهْدَ إلا كانَ القتْل بيْنَهُم، ولا ظَهرتِ الفَاحِشَةُ في قوْمٍ إلا سُلِّطَ عليهِمُ الموتُ، ولا مَنَع قومٌ الزكاة إلا حُبِسَ عنهمُ القَطْرُ).
(رواه الحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم" وصححه الالباني في (صحيح الجامع رقم 3005)
قال علي رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
وقد تصيب بعض هذه المصائب والأمراض غير العصاة، فتكون ابتلاء يرفع الله به درجته، ويعلي منزلته إذا صبر واحتسب.
وكون المعاصي هي سبب الأوبئة والأمراض لا يتعارض مع كون هذه الأمراض تنتقل عبر وسائل انتقال جعلها الله تعالى سببا في ذلك، فالله سبحانه هو خالق هذه الأسباب، وهو خالق المسببات، وهو من جعلها عقوبات على ارتكاب المعاصي والسيئات، فالتفسير العلمي لنشأة الأمراض وأسبابها وانتقالها لا ينفي أن ذلك بقدَر الله الذي خلق الأسباب ورتب عليها النتائج.
الوقفة الثانية: كورونا مأمور وكل شيء مقدور
(كورونا) خلق صغير من خلق الله، لا يصيب أحدا إلا بإذنه، ولا يأتمر إلا بأمره، فليست لكورونا إرادة خاصة، ولا قرار ذاتي، ولا قدرة مستقلة، بل هو مأمور أمرا قدريا من الله عز وجل، وهو جندي من جند الله عز وجل {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}
كما أن المصائب مقدرة قبل خلقها..
قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير}
وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر؛ فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار) (رواه أحمد ، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 5244)
والأجل مقدر قبل خلق الإنسان، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا}
وهذه الحقائق الراسخة تبعث في نفس المؤمن الطمأنينة والسكينة، وتبعده عن الخوف والقلق الذي يموت صاحبه عدة مرات في كل يوم وساعة!!
الوقفة الثالثة: كورونا.. الوقاية والعلاج
لقد شرع الله عز وجل الوقاية من الأمراض قبل نزولها، والعلاج منها بعد حلولها.
وأهم أسباب الوقاية والعلاج هي:
1- التقوى والعمل الصالح
كما أن الأوبئة والأمراض عقوبة من الله لعباده على معاصيهم، كما مر بنا، وتقرر معنا، فإن تقوى الله تعالى وطاعته تدفع هذه الأوبئة والأمراض قبل نزولها، وترفعها بعد حلولها.
فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة ، كما قال علي رضي الله عنه.
2- التحصن بالأذكار والأدعية
ما تحصنَ العباد من الشرور، ولا استَشفَوا من الأسقام بمثل الأذكار والأدعية التي كان صلى الله عليه وسلم يتحصن ويستشفي بها.
ومما كان يتعوذ به صلى الله عليه وسلم من الشرور كلها -وفي مقدمتها الأوبئة والأمراض- ويأمر به أصحابه:
- المعوِّذتان، فقد قال لعقبة ابن عامر رضي الله عنه: ( تَعَوَّذْ بهما؛ فما تعوذَ مًتَعَوِّذٌ بمثلهما) (رواه أبو داود، وصححه الألباني (صحيح أبي داود 1316)
- وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك). رواه مسلم
- وعن أبان بن عثمان قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من عبد يقول في صباح كل يوم، ومساء كل ليلة: (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم ثلاث مرات؛ فيضره شيء) (رواه أصحاب السنن وصححه الألباني)
- وللدعاء تأثير عجيب في دفع ورفع الأدواء، ومختلف صنوف البلاء، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)
(رواه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم 1638)
3- الصدقة
من أقوى ما تدفع، وترفع به الشرور والأمراض الصدقة، فالصدقة تدفع البلاء، وتزيد في العمر، وتمنع ميتة السوء.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (داووا مرضاكم بالصدقة) (حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 744)
4- الأخذ بالتوصيات الصحية من الجهات المختصة
مما ينبغي الحرص عليه، والعمل به في مواجهة هذا الوباء الأخذ بأسباب الوقاية، والالتزام بتوجيهات العلاج الصادرة عن الجهات المختصة، وهي منشورة، ومتوفرة بكثرة.
وهذه التوصيات قسمان: قسم يتعلق بالوقاية من المرض، وقسم يتعلق بالعلاج منه، وكل منها له أدلته الشرعية.
والأصل الشرعي فيما يتعلق منها بالوقاية، والأخذِ بأسباب الحِمْية أدلة كثيرة منها:
- قوله صلى الله عليه وسلم في تجنب الورود على الأشخاص، والأماكن المصابة بالمرض: (فِرَّ مِن المَجذومِ فِرارَك من الأسد) (رواه البخاري.)
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ) (رواه البخاري ومسلم.)
فهذان الحديثان الصحيحان يرسيان أصلا مهما لجميع تدابير الوقاية من الأمراض والأوبئة.
أما القسم الثاني المتعلق بالتداوي من المرض بعد الإصابة به فقد وردت فيه أدلة عديدة منها قوله صلى الله عليه وسلم: (يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً) (رواه أحمد وأبو دود والترمذي وابن ماجه)
وفي لفظ: (إن الله لم ينزل داء إلا أنزل شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله).
الوقفة الرابعة: كورونا أية من آيات الله!!
(كورونا) كائن مجهري ضئيل لا تدركه الحواس، ولا تراه العين المجردة، ومع ذلك فقد كان لهذا الكائن الصغير كل هذا الفعل الكبير، والتأثير الخطير في جميع أنحاء العالم!!
بينما كان إنسان القرن الحادي والعشرين قد ظن أنه بما أوتي من قوة، وحقق من تقدم، وملك من ناصية العلم، قد فرض سلطانه على الأرض، وتحكم في مجريات الحياة عليها، إذا به يجد نفسه عاجزا أمام فتك هذا الكائن المجهري الذي عجزت أمامه جميع قوى الأرض!!
إذا كان هذا فعل وتأثير هذا المخلوق المجهري الصغير، فكيف بالخالق العلي الكبير!!
{ولله جنود السماوات والأرض} {وما يعلم جنود ربك إلا هو}
الوقفة الخامس: توصيات عامة
1- لا داعي للخوف والقلق
المسلم مؤمن بقضاء الله وقدره، واثق من أن كل شيء قد فرغ منه، وهو موقن من أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فعلام الخوف والفزع، وفيم القلق والهلع؟!
{قل لن يصيبَنا إلا ما كتَب الله لنا هو مولانا وعلى الله فلْيَتوكلِ المؤمنون}.
2- بشروا ولا تنفروا
من هدي النبي صلى الله عليه وسلم التبشير، في أوقات الضيق والأزمات، والتركيز على ذكر الإيجابيات، وتجنب ذكر السلبيات.
ومن ذلك نشر المعلومات التي تفيد بأن إمكانية الوقاية من الوباء سهلة وميسورة، وأن نسبة الشفاء بعد الإصابة به تصل إلى 97%، وأنه قبل ذلك وبعده من خلق الله، لا يَعصم منه أو يشفي منه إلا خالقُنا وخالقُه!
3- إياكم والشائعات
الشائعات لها أثر خطير في إرباك الناس وتخويفهم من الحاضر والمستقبل بالأكاذيب والمعلومات والأخبار التي لا حقيقة لها، والواجب على المسلم أن يتحرى الصدق في كل ما ينقل، وأن يتحرى المصلحة فيما ينشر، وأن يعلم أنه مسؤول ومحاسب عن ذلك كله، وكم جنى الحرص على "السبْقِ الإخباري" على أصحابه وعلى الناس! (كفى بالمَرءِ كَذِبًا أن يحدِّثَ بكلِّ ما سَمِع)
كانت تلك وقفات سريعة مع (كورونا) أردنا من خلالها إيضاح وإبراز الرؤية الإسلامية ل(كورونا) والموقف الذي ينطلق منه المسلم في تعاطيه معه، ومع غيره من الأوبئة والأمراض، والشرور والمصائب..
وقانا الله وجميع المسلمين جميع الأوبئة والشرور والفتن.. ما ظهر منها وما بطن...
اللهم إنا نعوذ بك من جميع المعاصي والآثام، ومن كل ما تجلبه من الأمراض والأسقام..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين.
-كتبه محفوظ بن الوالد (أبو حفص الموريتاني)
من صفحة الكاتب