ينشط العقل الديني زمن الأزمات، ويجد في مصائب الأمم ومآسيها مناسبات لإنتاج أغاليط وترهات تقتات على الخوف والقلق الذي يميز الأمم والشعوب في أزماتها عادة، لم يشذ بعض تجار الدين في المغرب عن هذه القاعدة، ولم يكتفوا بالبحث في تاريخ للدين لا يعرفون أسانيده إلا هم، واختيار ما يناسبهم من وقائع وأحاديث وآيات يفسرون بها سبب الوباء والبلاء. بل اجتهد بعض كبار جهالهم في رفض قرار سيادي يكفله الدستور لرئيس الدولة بالمغرب باعتباره ملكا وأميرا للمؤمنين، ويسانده أغلب رجاح العقول، بل وأفتى المجلس العلمي بالمغرب بإغلاق المساجد بالمغرب، مثلما أفتت الكثير من الهيئات الدينية في العالم بنفس الفعل.
لن نناقش جهل هذا الشيخ بالدين، ولن نعتبر خفته في إطلاق الأحكام والتحريض على العنف بعدما جعل من المغرب دار حرب، مسألة ذات بال، فهو كأي معتوه، لا يسمع الناس كلامه ولا يثقون في أحكامه، وهذا بالفعل ما قام به المغاربة الذين عابوا على أبو الجهل إسهاله، وضحكوا من كلام شيخ إحدى الجماعات السياسية، مثلما تندروا بكل الأشكال على كثير من تجار الدين من الرقاة والدعاة والمتظاهرين بالتدين من كل نوع. وإنما سنسعى عبر هذه الحلقات إلى تفكيك الخطاب الديني حول الأوبئة والأمراض والمسائل التي فكر فيها، والأحكام والفتوى التي أنتجت طيلة تاريخ هذا العقل بالمجتمعات المسلمة، والتي عبرت في الغالب عن الشرط التاريخي التي أنتجته بما شرط لم يكن للعلم ولا للطب الموقع الذي عليه اليوم في مجال إنتاج المعرفة بالعالم، ولا الحاجة إلى إنتاج معرفة سياسية حول الأوبئة كالتالي كانت فالماضي.
إن النصوص التي أنتجها الفقهاء والمؤرخون والإخباريون والرواة من كل نوع وجنس، تعبر من جهة أولى عن عصرها، وتجيب على أسئلة أهلها، وهي على قلتها تقدم الكثير من النماذج على ضعف ما يعتقده هؤلاء حقائق لا شك فيها، نتحدث هنا عن بذل الماعون في فضل الطاعون لابن حجر، وأحكام الطاعون للرهوني، أقوال المطاعين للمشرفي، ما رواه الواعون في أخبار الطاعون للسيوطي...إلخ. تطرح هذه النصوص نفس الأسئلة تقريباً وتقدم نفس الإجابات، عن طبيعة الطاعون والوباء وسبب الإصابة به، عن الفرق بين وجوده كابتلاء ووجوده كعقاب، عن حقيقة استثناء الوباء لمكة، وعن الهروب من الطاعون، والدعاء برفعه، وعن وجوده كقضاء وقدر....إلخ.
لا يعلم أبو النعيم ربما أن عمر ابن الخطاب لم يدخل الشام بسبب حيطته من الطاعون، وربما لم يعلم أن الحنابلة حرموا حتى الدعاء برفعه، وأن ابن يحي السوسي دعا فقط إلى الصبر، ما لا يعلم أن هوميروس قبلهم جميعاً اعتبر أن الطاعون ليس إلا عقابا من الإله أبولون للإغريق بسبب حصارهم الطويل لطروادة.
لا نحتاج أبو النعيم ولا غيره للإفتاء في الحرام والحلال والجائز والمكروه والممنوع وخلافه من الأحكام الفقهية، نحتاج اليوم علماء يفكرون في حلول عملية لملايين المغاربة يعيشون على وقع الخوف من المرض والحاجة.