و لإن كان حقل الثقافة في موريتانيا يعاني من ركود شديد فإن عطاء بعض المراكز الثقافية تظل بفضل "العناية الإلهية" المتنفس "القدري" الجميل للمهتمين بالثقافة في البلد يلتقون في رحابها و ينهلون مما تقدمه من مادة معرفية و فنية و أدبية متنوعة تشف عن مستوى الثقافة في بلدانهم و تكشف شديد اهتمامهم بالعقول و غذائها المعرفي و الإبداعي.
و في هذا السياق أطلق بعد توقف مفاجئ دام فترة و بقوة منذ فترة قليلة المركزُ الثقافي المغربي على يد مديره الجديد الشاب محمد رحموني سلسلة رفيعة من الأنشطة الجيدة و العالية المستوى و ذات الاهتمامات المتنوعة التي تراوحت بين محاضرات تناولت مواضيع قيمة أنعشها أساتذة جامعيون و متخصصون متميزون و بين عروض فنية راقية لامست في مجملها شغاف نفوس المهتمين و المتعاطين و جمهور رواد المركز المواظبين.
و في مساء يوم الأربعاء 19/12/2017 نظم المركز بالتعاون مع جمعية الشروق للمسرح عرضا فريدا من نوعه على المسرح الموريتاني عموما و في قاعات العروض خاصة تمثل في تقديم مسرحية تنتمي لفئة المنولوج العصية حيث تكون القاعة و الجمهور ملك الممثل الوحيد على الخشبة.
و لكن المدهش أكثر و بحق هو أن هذه المعالجة المسرحية تمت باللغة العربية الفصحى من "كتابة" نصية لشاب يافع و بإخراج متميز طافح بالحداثة من فتاة في بداية المشوار. و قد حمل النص الذي تميز بجزالة اللغة جملة من الهموم التي تراوحت بين تعرية مظاهر الظلم و كشف عورات الظالمين، و بين رفض البقاء في القوالب الاجتماعية الضيقة، القديمة، الخانقة و المقيدة بصرامتها في التصفيد عن أية انطلاقة إلى رحاب دولة العدالة و المساواة و المجتمع المنسجم مع رسالة بناء الصرح المشترك.
و لما أن العرض بجودته المدهشة لقي استحسان جمهور كبير تابعه بصمت و انسجام نادرين مع أدبيات المسرح فإنه كذلك أثار العديد من المداخلات الثرية تراوحت بين النظرة النقدية الفاحصة و المقدرة بامتياز للعمل و الممثل الوحيد و الكاتب الشاب و بين الغوص في أوجه من النقد التي أثارتها المسرحية في وجه المنولوج الغير معهود في البلد.
و مما كان لافتا أيضا أن مدير المركز السيد جواد رحموني لم يفوت المناسبة للإعلان عن وجهة نظر نقدية ثاقبة أبرزت وجها مثير للاهتمام في مجريات العرض الذي حمل هموما متعددة في شكلها و مترابطة في مضمونها؛وجهة نظر تمثلت في الوقوف بامتعاض نقدي بارز أمام نهاية المتولوج الدراماتيكي بموت الممثل الوحيد الذي كان يرسم لوحة قاتمة لواقع طغى فيه الظلم على واقع الحال و كان لزاما أن لا يموت حتى لا ينقطع الأمل في حدوث التغيير المنشود و شروق شمس جديدة بالأمل في إمكانية، بل و حتمية انتصار إرادة العدل و دحض الظلم.
لقد كان عرضا قويا و جديدا هيأ له المركز في قاعته الكبيرة كل وسائل الإضاءة و الصوت و خشبة على قدر العروض التي تقدم فوقها من حين لآخر.