خمريات

خميس, 02/09/2017 - 18:42
محمدُّ سالم ابن جدُّ Abouz130@gmail.com

 فى أصيل دكارِيٍّ شاعري كنا مجموعة موريتانيين نتمشى على الشاطئ فمررنا على ندامى أوربيين بفناء أحد الفنادق الفخمة هناك يغتبقون القرقف، وبمجرد رؤيتنا هب موريتاني كان بينهم وولج الفندق مسرعا كأنما يخشى أن نمسك به ونشهر فعلته.

عادت بي الذكرى سنين عددا إلى أول عهدي بانواذيبُ حين كانت خمس حانات معلنة في حي واحد، وحين كانت شرفة المطار حانة "رسمية".. وجارتنا الشريبة المزعجة، والأخرى صاحبة الحانة التي تتلو سورة الواقعة ليلة الجمعة وتتجول بين العمال فإذا أنست من أحدهم خطأ أو تقصيرا رفعت صوتها بالآية التي وصلت إليها بجرس آمر أو ناه.
في إحدى ليالي تلك الفترة حمل ذو سيارة أجرة (R4) معي يابانيين أفرغوا الرجس في بطونهم ففاح من أفواههم ولجُّوا في جدالهم، فكدت أختنق وأخرجت رأسي من النافذة غير مبال بالخطر، وألححت عليه ليسرع قبل أن أموت في سيارته!
وفي فترة لاحقة من شبابي عملت تحت إمرة رجل نادرا ما يصحو، فكان المحاسب وزميل لي يتآمران عليه إذا رأياه غير متزن، فيزعم زميلي أن له رحلة عملية فيعطيه أمرا بصرف مبلغ غير منضبط يتقاسمه مع المحاسب ويغيب عن نظره ساعة أو أكثر. وكان إذا رأى في صحوه الوثائق التي أصدرها في سكره نظر فيها طويلا ولم ينبس ببنت شفة!
مرة جاءه سياسي كبير مشتكيا من أحد جماعتنا شبهه بالزنكلوني فصادفه ثملا فاستمع إليه بهدوء ثم رفع إليه طرفا فاترا وقال له: وما ضر هذا؟ إنما أنت زنكلوني.. وضحك! فخرج الرجل وغضبه على المتبوع أشد من غضبه على التابع.
مسؤول بأحد المراكز الثقافية دعاني لإلقاء محاضرة في مركزه وصادف الموعد رمضان، جئته ظهرا فعانقني ورائحة الخمر تفوح منه! ومواطن عربي ينشدني بالله – ونحن في الجو- أن "أشرِّفه" بشرب كأس من أم الكبائر، وكأنه لا يدري بأن من ينشدني به حرمها في محكم تنزيله، ولا أني أعاف رائحتها في الأرض في غيري، أفأشربها بنفسي بين السماء والأرض؟!
تجددت الذكرى في أحد صباحات 2001 حين مررت بحادث سير (في تقاطع مرحبا ودار البريد) تحولت ساحته إلى مستنقع خمري كريه.. يومها قلت لمرافقي: لو لم يكن للشارب من العقاب إلا هذه الرائحة لكفته في رأيي! ثم تبين أن سيارة لنقل الألبان تعود من مدينة القوارب بالخمر مموهة بعلب اللبن أصابت سيارة صديق عزيز لي فأتلفتها وتناثرت قوارير الخمر فلم تسلم الجرة تلك المرة.
منذ فترة حل بالبلاد ضيف كبير فأفردت السلطات له سكنا مناسبا، وألحقت به مكانا للتعبد وفق طلب الضيف، وبعد أيام سافر فبدأ عمال النظافة في استخراج قناني الخمر الفارغة من "متعبده". ومسؤول ضرب موعدا مع زائر لأمر مهم فلما دخل عليه استقبله بالترحيب وخطا إليه مترنحا وعانق الأسطوانة بدلا منه!
في السنوات الماضية دأبتُ على التمشي مع طريق الصكوك أيام كان خلاء، وكنت آخذ ماء للوضوء إذا خشيت غروب الشمس قبل عودتي، وربما اصطحبت أحد الأطفال، وفي أحد الأيام اعترضتني قارورة ويسكي مكسورة وبها بقية، فاخترت تنجيس يدي على ترك الأذى على الطريق؛ لذا أبعدتها ثم غسلت يدي فجعل الطفل يقلب يدي سائلا: أنت لم تجرح فلماذا تغسل يدك؟! ولضيق مداركه لم أُفْهِمْه أن المادة نجسة سدا لباب أسئلة طفولية أخرى (أكرمكم الله).
ما أبهى خمريات الشعر وما أسمج خمريات الواقع! وما أشد اختلاف الناس.. يجن أحدهم فيبذل أهله المال والوقت والجاه والوسائل طلبا لشفائه، ويعافي الله آخرين فيبذلون المال والوقت والوسائل للتخلص من عقولهم!