إن أهم قنوات التطور السياسي، وحمايته من أي ضعف، يتمثل أساسا في تفعيل قوى سياسية "معارضة" تمارس عملها بصدق وحرية تامة، بغية مراقبة أداء الحكومة وممارسة عملية نقد موضوعي لأي قرار أو إجراء تقدم عليه السلطة التنفيذية، ويترتب على ذلك أن وجود المعارضة في حد ذاته حالة صحية مؤسساتية، وعدم وجودها ينطوي على مخاطر جمة ، قد تؤدي إلى إخراج المجتمع من مساره الديمقراطي .
وهذا يستدعي من الحكومة أن تدرك جيدا أن تقزيم دورالمعارضة يعد في الواقع تشجيعا على المواجهة والعنف، لذلك فإن المعارضة يمكن أن تكون صمام أمان ضد تحويل أي خلاف بسيط إلى صراع خطير ، حتى أن الدول المتحضرة أوجدت أماكن مناسبة للمفكرين والمثقفين والسياسيين بالقرب من السلطة ، واستفادت منهم في حركة النقد الهادف فأصبحوا عونا لها ، ولم يكونوا خطراعليها ، ولهذا فإن للمعارضة حق النقد والاعتراض وإدانة التجاوزات ، وحتي رفض المقترحات الحكومية ، والمعارضة بهذا المعنى تشكل سلطة مضادة ، بل أكثر من ذلك فهي "حكومة ظل" وعليها واجب الدفاع عن المبادئ الأساسية للديمقراطية والحريات العامة ، وتعد من أهم أدوات التنشئة والتنمية .
ومع هذا فإن المعارضة الموريتانية كان باستطاعتها أن تراكم الانشطة والفعاليات ، لأنها ليست مكبلة من طرف الحكومة ، بل إنها تتوفر في الوقت الحاضر على أفضل ما يلزم من الضمانات الدستورية والقانونية التي ستمكنها من القيام بأدوارها ومهامها ، التي ستحتاج إليها ، من أجل موازنة المتطلبات والتطلعات وتحويل ذلك كله إلى سياسات عامة ، ومن ثم توفير قنوات للمشاركة الشعبية والصعود بها إلى درجة من الرقي والتنظيم الفاعل ، لتحريك وتفعيل الجماهير بغية انتزاع القرارالسياسي ، وتحويل آراء المواطنين إلى خيارات سياسية واقعية تخدم البلاد والعباد .
غير أن ثنائية المعارضة والحكومة التي يرافقها عادة الإختلاف في وجهات النظرحول بعض القضايا الوطنية ، ينبغي أن لا تخضع لمفهوم إقصائي يعتمد "إما معي وإما ضدي" ـ بل يجب أن تحكمها ضوابط وقواعد واصول وآداب تحفظها من الشطط والفوضى وعلل النفوس ، فلا يجوز أبدا أن يؤدي أي عمل لصلح الوطن ، إلى تباغض أوتدابر أوتقاطع ، لأن أخوة الدين ، والإنتماء للوطن الواحد ، وصفاء القلوب ، قد تسمو بالجميع فوق الخلافات الجزئية " فالاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية " ، بل إن البعض يرى أكثر من ذلك ، حيث يقول فولتير: " قد أختلف معك في الرأي ، ولكني على استعداد أن أموت دفاعا عن رأيك " .
ومع ذلك فان انتزاع المعارضة لأي مكسب يأتي عادة ثمرة لجهود مكثفة من الاحتجاجات والضغوط والنقد واقتراح الحلول الملموسة أو البديلة ، بغية تمكين المواطنين من الاختيار بين برامج ومبادئ متعددة ، تسمح بتجديد النخب السياسية ، وتجعل من المجتمع شريكا مساويا للدولة ، ليس في الجانب المادي فحسب ، وإنما في الجانب الأخلاقي الذي تتم من خلاله مراقبة سلوك المسؤولين أثناء تأديتهم لمهامهم ، والمساهمة في علاج أي أزمة طارئة أو التقليل من انعكاساتها السلبية على الجماهير ، وبذلك تتحقق الوظائف العامة المنوطة بالمعارضة ، وهي التعبئة ، والتنمية، والاندماج القومي، ودعم الشرعية ، والتجنيد السياسي ، وعلى هذا النسق ستتجه هذه المعارضة إلى التجذر بعمق في مجتمع حر وعادل ، وعند ذلك يمكنها قيادة وتوجيه الجماهير وكافة عناصر المجتمع المدني .
غير أن هذه الضوابط والآداب السياسية قد لاتجد أذانا صاغية في ظل عدم جدية الموالاة والأغلبية الصامتة و"بطانة أهل الثقة " ، التي يعتقد الحكام ـ واهمون ـ أنهم قد يضمنون بها استمرارهم في مناصبهم لأطول وقت ممكن ، بغض النظر عن اعتبارات مصلحة الوطن ، في نفس الوقت الذي يتم فيه استبعاد "بطانة أهل الخبرة " التي تقدم أفضل الإستشارات وأحسن النصائح ، ويؤدي بها عادة المسؤولون عملهم في دولة القانون على أكمل وجه ، لأن البطانة الصالحة تواجه الحكام بأخطائهم ، ولا تجاملهم في الحق ، خلافا لأفراد بطانة اخرى ، يعينون على الخطأ ولا يرشدون إلى الصواب ، وينظرون في كل سانحة إلى مصالحهم الذاتية فحسب .
وفي هذه الحالة تنعدم دولة القانون ، وتتلاشى كافة مؤسساتها ، ويتراكم نفوذ بطانة السوء ، وتقوى شوكتها ، حتى تصبح "حكومة خفية" وعند ذلك تكون الدولة هي الضحية .
ومع ذلك فإن سياسة التثبيط والدعوة للفوضى والكراهية والدعاية المسعورة من أجل تمزيق النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية ،التي ينتهجها البعض في كل المناسبات ينبغي أن يتم التصدى لها من طرف أصحاب الضمائر الحية .
إلا أن الإختلاف بوجهات النظر إذا ارتكز على الضوابط الشرعية حري به ان يكون ظاهرة صحية تغني العقل بخصوبة في الرأي، ورؤية للامور من أبعادها وزواياها المختلفة .
ومع ذلك لابد من التدرب على آداب الإختلاف والاخلاق التي تحكمه ، لأن الاسلام يتسع الى تلك الاختلافات التي لا تهدد وحدة الامة، فيكفي أن تتوحد المواقف إزاء القضايا الكبرى ، أما الأمور الفرعية التي يساعد اختلاف الرأي فيها على الإرتقاء نحو الافضل فلا ضير فيها ،حتى أنهم ذكروا أن " كثرة الوفاق نفاق وكثرة الخلاف شقاق " .