طفرة اقتصادية تتحول إلى كارثة:
لقد فشل نظام ولد عبد العزيز في تسيير الطفرة الاقتصادية الكبيرة التي حبا الله بها البلاد في السنوات الخمس الماضية فلو كان للبلد قيادة رشيدة عقلانية لاستطاعت أن تعبر به مسافات بعيدة على طريق التنمية والازدهار، ففي هذه السنوات يمكن القول دون مبالغة أن عائدات البلد تضاعفت عشر مرات بسبب الارتفاع المذهل لأسعار الحديد عالميا (انتقلت من 22 دولار/طن 2004 إلى 187 في فبراير 2011 أي 8 مرات ووجود صادرات جديدة لم تكن موجودة (النفط ـ الذهب ـ النحاس)، كما شهدت أسعار الأسماك ارتفاعا هي الأخرى، وشهد المجهود الضريبي خنقا للمواطنين وللنشاط الاقتصادي بشكل عام).
فبدل وضع سياسات اقتصادية رشيدة تأخذ في الاعتبار تقلب الأسواق العالمية من جهة وواقع الدولة في الحاضر والمستقبل من جهة ثانية ،وظروف المواطنين من جهة ثالثة أهدرت هذه الموارد الطائلة في دعايات زائفة ومشاريع لم تراع إلا الدعاية الرخيصة للنظام وجيوب سماسرته الفاسدين.
وهكذا مع تراجع الطفرة في السنة الأولى أخذت الحقائق تنكشف وإذا بسنيم ـ رافعة الاقتصاد الوطني ـ تكون أول متضرر من الوضعية حيث تعاني اليوم مشاكل كبيرة نرجو أن لا تؤدي إلى إفلاسها ، ولا يخفى على أحد أن السبب في ذلك هو تدخل النظام في تسيير هذه الشركة وإرغامها على تنفيذ مشاريع ليست من اختصاصها ولا ضمن أولوياتها ، فبدل أن تستثمر اسنيم في زيادة إنتاجها في فترة يشهد سعر الحديد فيها طفرة عالمية أجبرت على دفع 50 مليار أوقية في صفقة المطار التي هي بين الدولة ورجل أعمال آخر لا علاقة له بها لتقترض هي بفائدة تناهز 20% من طرف ممولين آخرين .
وأمام هذه الوضعية الصعبة لم يجد النظام بديلا عن عائدات المعادن إلا استنزاف جيوب المواطنين ، فلأبعاد دعائية أبقى الميزانية على مستواها في سنوات الطفرة ليفرض ضرائب ورسوم جديدة بواقع65% تقريبا من الميزانية لكنها على حساب القوة الشرائية للمواطنين ، وليتراجع النمو الاقتصادي إلى أقل من 2% بعد أن كان حسب أرقامهم فوق 6% .
ونشير إلى أن الرسوم والضرائب الجديدة كانت على مواد أساسية إضافة إلى ضرائب على المؤسسات : 240.2% على المواد البترولية "بلغة الأرقام تأخذ الدولة على كل لتر كزوال 250 أوقية، 71% على المواد الاستهلاكية .. الشئ الذي أدى إلى الارتفاع المذهل للأسعار رغم تراجع بعض أسعار المواد الاستهلاكية في الأسواق العالمية.
وقد تضرر المواطن من جراء هذه السياسات الضريبية فتصاعدت أسعار المواد الأساسية :
- الأرز انتقل من 220 – 300 أوقية
- السكر من 200 – 300
- السمك (الكربين) 1500 – 2500
- الزيت 350 – 450
- ياي بوي من 20 ـ 100 أوقية
فحسب المنظمة الدولية للأغذية فإن الأسعار العالمية لهذه المواد لم تشهد ارتفاعا على العكس شهد بعضها تراجعا (السكر تراجع بـ 30% في 2014) وكذلك تراجعت أسعار الحبوب .
ويعود ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية في جزء منه إلى تدهور قيمة الأوقية الذي تتحمل الحكومة مسؤوليته بسبب سياستها النقدية ، فحسب بعثة النقد الدولي في موريتانيا فإن الحكومة "سمحت بسعر صرف أكثر مرونة" وذلك يعني في تعبيرهم الدبلوماسي تخفيضا مقصودا لسعر العملة (انتقل سعر الدولار من 270 أوقية سنة 2011 إلى أكثر من 360 أوقية نهاية 2016).
وحسب تقرير نفس البعثة (فبراير 2016) يقدر عجز الحساب الجاري ب 19% من الناتج المحلي الإجمالي في 2015 رغم ما قام به النظام من إجراءات خانقة للإنفاق العام وللقوة الشرائية للمواطنين .
ورغم ما يدعيه النظام من زيادة في النمو خلال السنوات الماضية فإن ذلك لم يترجم في سياسات اجتماعية ناجعة لا في مجال التشغيل ولا في مجال الصحة ولا في مجال التعليم ، فيعاني هذان القطاعان الخدميان الأهم ـ الصحة والتعليم ـ ظروفا مأساوية حيث سيطرت الدعاية والفساد على صفقات الصحة وسيطرت التصفية والانتقام على التعليم ليتدهور تدهورا شاملا يتمنى أغلب الموريتانيين أن لو عادوا لوضعيتهما الأولى رغم سوئها.
• البطالة
تعتبر البطالة من المعضلات الاجتماعية ذات الأبعاد المركبة فلا تقتصر خطورتها على فقدان الدخل وحسب بل وفي انعكاساتها وآثارها البعيدة المدى كالأضرار النفسية وفقدان حافز العمل والمهارة والثقة في النفس وازدياد العلل المرضية ، معدلات الوفاء ، التفكك الأسري وفقدان الشعور بالانتماء والحس الوطني وهجرة الأدمغة إلى الخارج.
ومعالجة هذه المشكلة تتطلب القيام بإجراءات وسياسات علاجية على المدى الطويل وأخرى يتم تنفيذها في المدى القصير فماذا عملت الحكومة وماذا تنوي القيام به علما بأن معدل البطالة حسب آخر الإحصائيات الرسمية وصلت 27.5% (التعداد العام للسكان والمساكن) بينما تدعي الدولة أنها في حدود 11%ولعل التلاعب بالأرقام هو ما جعل صندوق الإنماء العربي يوجه رسالة أخيرا إلى شركائه الموريتانيين يوقف بموجبها التعامل .
نشير هنا إلى أن عددا من المؤسسات سرحت عمالها لتكتتب بدلهم آخرين في تعبير واضح عن الزبونية الضاربة في أعماق كل المؤسسات.
• التعليم
نظرا إلى أن التعليم هو الوسيلة الأساسية لخلق تنمية بشرية قادرة على مواكبة العصر وتلبية حاجات الإنسان وتحقيق طموحاته من خلال الدولة الحديثة ،ونظرا إلى الحالة المزرية التي يمر بها التعليم في موريتانيا فقد بينت المؤشرات أن:
- معدل التمدرس في المرحلة الابتدائية يقدر ب 72.4% تبعا لبيانات التعداد العام للسكان والمساكن 2013
- تفيد نتائج الباكلوريا أن 16 تلميذا فقط من كل 100 تمكنوا من الحصول على هذه الشهادة في العام 2013 وتطورت نسبة النجاح هذه صعودا وهبوطا إلا أنها تظل بعيدة من أهداف 2015 و2020 التي هي على التوالي 32% و55%
إن الاستثمار في تنمية الموارد البشرية هو وحده الكفيل بإحداث تغيير نوعي يمكن البلاد من الحصول على قيمة إضافية لثرواتها الباطنية الكثيرة ، ولكن ما الذي قامت به الحكومة في هذا المجال ؟ وما الذي ترتب على شعار 2015 سنة للتعليم" سوى بيع المدارس وافتخار الحكومة باحتسابها في المداخيل؟ !! ألسنا في ذيل المؤشرات الخاصة بالتعليم إقليميا وعالميا؟ ماذا كان مصير المنتديات الخاصة بالتعليم التي نظمت منذ ست سنوات؟
أليست مؤسسات الامتياز والمؤسسات النموذجية مظهرا جديدا للفساد ؟
- فمثلا مدرسة الشامي النموذجية لها ميزانية 60 مليون أوقية وهي خط على الأوراق لا وجود لها على الأرض
- ثانوية الامتياز في النعمة ميزانيتها 15 مليون وبها 11 طالبا في الوقت الذي لا تتوفر فيه الإعدادية رقم1 بنفس المدينة إلا على أقل من مليونيْ أوقية
- أما الثانوية العسكرية فحدث ولا حرج عن معايير دخولها!!!
أين هو التكوين والتأطير بعد أن أصبحت نسبة 40 ـ 50% من طاقم التدريس تكتتب بشكل مباشر حتى من الأرياف أحيانا دون مراعاة لأدنى حد من المعايير التربوية؟ ، ألم تقم الوزارة المعنية في هذه السنة بإغلاق عدد كبير من المدارس التي يراودها أطفال منحدرون من أوساط فقيرة ليجبروا على اللحاق بمدارس بعيدة مكتظة مما يتطلب تكاليف مادية كبيرة وتغييرا في نظام وحياة الأسرة بكاملها؟ ، ألا نشاهد يوميا تظاهر خريجي هذه المدارس العاطلين عن العمل حتى العلميين منهم؟ ، وإجمالا ماذا استفاد التعليم من هذه الطفرة الاقتصادية الكبيرة؟
• الصحة
تدعى الحكومة أنه قد تم القيام باستثمارات كبيرة في مجال البنية التحتية (بناء وإعادة تأهيل تجهيز المستشفيات) لكن ذلك ـ إن صح ـ كان على حساب الصحة القاعدية فنسبة مخصصات الميزانية المخصصة لقطاع الصحة %4.5 (2011 ـ 2015) أما هدف الإطار الاستراتيجي فهو %15 وقد بين التقويم الأخير للإطار الاستراتجي لمحاربة الفقر إن خفض وفيات الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمس سنوات هدف خارج نطاق التحقق أو بعيد المنال ، ويقدر معدل وفيات الأطفال الرضع وحديثي الولادة ب 115 لكل 1000 في العام 2013 في الوقت الذي كان هدف الألفية الوصول لـ 45 في 2015.
أما بخصوص تحسين صحة الأم ـ لا يزال معدل وفيات الأمهات مرتفعا مع 582 لكل 100.000 ولادة حية في العام 2013(ت.ع.س.م) بعيدا جدا من الهدف المنشود أي 232 فهو هدف بعيد المنال .
• الدين العام
أما فيما يتعلق بالدين العام المضمون من قبل الحكومة فيشير التقرير إلى أنه وصل 93% من الناتج المحلي الإجمالي من نهاية 2015 أي ما يقارب 4مليارات دولار.
إن هذا التسيير المزاجي لثرواتنا الوطنية قد أدى إلى ظروف معيشية صعبة وإلى تقلص فرص الاستثمار وهروب رأس المال الوطني من البلد حيث استقطبت البلاد المجاورة (المغرب، السنغال ، مالي ، غينيا ...) كثيرا من رجال الأعمال الموريتانيين.
إن السبب الأول والأخير لهذه الوضعية هو الفساد والارتجالية حيث أهدرت واردات البلد في مشاريع ليست ذات أولوية أحيانا أو ذات أولوية ولكنها غير مدروسة ، كما ظل الفساد والتربح على حساب المصلحة العامة هو الباعث أحيانا لهذا المشروع أو ذاك ، وهنا نعطي بعض الأمثلة :
نماذج من الفساد والسوء التدبير
1) لقد كانت أهم الصفقات تمنح بالتراضي (المطار ـ استصلاح الأراضي الزراعية ـ الكزرات ـ الطرق ـ شراء الطائرات) بحجة أنها ممنوحة لمؤسسات حكومية : الهندسة العسكرية ، SNAT,ENER , ATTM لكن في واقع الأمر ليست هذه المؤسسات هي المنفذ الوحيد الفعلي لهذه المشاريع بل إنها تتنازل عنها قبل أن يجف حبر توقيعها لصالح مجموعة المقربين.
2) بيع منشآت الدولة (الملعب الأولمبي ـ مدرسة الشرطة ، المدارس ...) ومما يخجل أن يعلن الوزير الأول عن 10 مليارات لمداخيل من بيع المدارس ، وإن القول بأن هذه المرافق قد بيعث بشفافية لأعداد كبيرة من الموريتانيين تكذبه الشواهد والوقائع ، حيث تبنى المنشآت بهندسة بناء موحدة ، ومن طرف مقاول واحد وبجهة إشراف واحدة فكيف لأعداد كبيرة من المواطنين أن تتحد في كل هذه الأمور !!
3) ذكرت الصحافة لائحة 20 رجل أعمال جديدة أنتجها مصنع النظام الجديد على غير مؤهل مسبق.
4) شركة النقل العمومي التي أهدرت فيها أموال كبيرة ثم ها هي اليوم تسرح أعدادا من عمالها ولم ير لها أثر في الواقع !!
5) آفطوط الشرقي
6) شركة الطيران التي تتستر الدولة على وضعها المالي وتصرف عليها باستمرار وهي آئلة للإفلاس ومنذ نشأتها إلى اليوم لم تنشر أي رقم مالي.
7) مشاريع ليست أولوية (مدينة الشامي ـ انبكت لحواش ـ طرق بنشاب من الجهتين الشرقية والغربية)
8) مشروع المطار ، فرغم أهمية المطار كان الأولى أن يتم وفق دراسة تقدر حجم المطار المطلوب لدولة سكانها 3 ملايين وليست قطبا سياسيا ولا اقتصاديا ومجموع المسافرين منها وإليها 70.000 فقط سنويا ! لنرى هل الأجدى تشيد المطار بتمويل خارجي يسدد على عشرات السنين أم تمويل وطني يؤدي لاستنزاف الاقتصاد الوطني كما حصل!!
فرغم الدعاية التي رافقت المشروع فإن المشروع أتى على الأخضر واليابس في الاقتصاد الوطني حيث وجهت له 50 مليار من موارد اسنيم كان الأجدى استثمارها في مجالات أكثر ربحية ، ثم إن بيع القطع الأرضية امتص أغلب ما في البلد من السيولة فتعطل الاقتصاد من جراء ذلك ، والأدهى والأمر أن تظل الدولة تسدد فاتورة تسيير المطار حيث لا ينتظر أن يسهم بشكل يذكر في ميزانية تسييره
9) قناة كرمسين : انفقت الدولة على هذا المشروع 15 مليار أوقية في مرحلتين لفائدة مدير snat التي كان يديرها مقرب من النظام ولم يعط نتيجة لأن الأراضي المستصلحة سباخ لا تصلح للزراعة
ولعل تنامي هذا الفساد وفر البيئة الملائمة لمصنع إنتاج رجال الأعمال الجدد (تجديد طبقة رجال الأعمال)
10) مشاريع لم تر النور
- مشروع الأعمدة الكهربائية
- مصنع الألبان في النعمة
- مشروع السكر الذي لا يرى من نتائجه إلا توفير راتب كبير لرؤساء الحزب الحاكم المتعاقبين على رئاسة المجلس وإدارته
- رباط البحر.
هذا مع العلم أنه قلما ينتهي مشروع في أجله أو بمواصفات الجودة المطلوبة لأن الصفقات تمنح لمقربين لا يمكن محاسبتهم ، ( حتى المشاريع الممولة من طرف النظام السابق لم تنته الأشغال فيها: طريق تجكجة ـ أطار )
وهنا لا بد من الوقوف قليلا لرصد بعض مظاهر ونتائج التخبط وسوء التسيير
- ارتفاع نسبة الفقر ، إذا ما اعتبرنا مؤشر عتبة الفقر الذي حدده المسح الوطني الدائم لعام 2014 ب 169445 أوقية سنويا فإن نسبة 31% من الشعب الموريتاني تحت خط الفقر.
- انتشار الفساد والمحسوبية وقد كشفت منظمة الشفافية العالمية في تقريرها الأخير أن موريتانيا تحتل المرتبة 142 من أصل 176 دولة بعد أن تراجعت خلال السنتين الأخيرتين من الترتيب 124.
- وفي دراسة صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) فإن نسبة وفيات الأطفال دون سن الخامسة ما زالت مرتفعة 54% وأن 27% فقط من الأطفال في سن التمدرس يذهبون إلى المدرسة ، وأن 26% يعملون في ظروف خطيرة.
- حسب جريدة forbes المخصصة تأتي موريتانيا في ذيل مناخ الأعمال 139/125.
- ارتفاع البطالة ووتيرة تسريح العمال .
- انهيار المنظومة التعليمية وانعكاساتها على القيم والأخلاق
لقد وفرت هذه الحصيلة البيئة النموذجية لإنتاج الجريمة وانعدام الأمن من خلال انتشار الجريمة المنظمة وغير المنظمة ، حتى أضحت الحركة بعد صلاة المغرب في بعض أحياء العاصمة مغامرة ، فجرائم القتل والاغتصاب والسطو ... التي أصبحت يوميا في عموم مقاطعات نواكشوط ، ومما يذكر هنا أن غياب العدالة والقصاص من المجرمين كان له نصيب في تفاقم الظاهرة.
ولا شك أن فقدان الأمل لدى الشباب خاصة كان الدافع الأكبر إلى التطرف والالتحاق بشبكاته المعروفة.
إن هذه الوضعية بكل ما تحمله من احتمالات مختلفة حاضرا ومستقبلا تتطلب من الجميع تحمل المسؤولية ودقّ ناقوس الخطر أولا وخلق الوعي بها ثانيا والتحرك الجاد والواعي لوضع السياسات القادرة على إيجاد الحلول المناسبة التي يشارك جميع الموريتانيين في انجازها في تناغم وانسجام مجتمعي نحن في أمس الحاجة إليه.