هل نحن "الأصفياء" و غيرنا "المسخرون"؟
و نظل نوهم أنفسنا أننا نساير التطور بتحمل ألسنتنا بصخب زيف الإدعاء و نعلم راضين و مقتنعين في قرارة أنفسنا أن الأمر غير ذلك. إنه تناقضنا الفريد مع "ذواتنا" و مع ناموس الأشياء كما أوجدها الله للتوازن و الاستمرار من حولنا. إننا نستظل بالبيوت و لا نرفع طوبها، نركب السيارات و لا نصلح أعطالها، نفصل من قماش غيرنا و لا نزفر منه خيطا، نرش العطور و لا نميز زهورها و وورودها، نفرش البيوت و لا علم لنا بمصدر صناعتها، نكتب شعرنا المسكر و نثرنا المثقل بـ"الأنا" المتضخمة و "فواتير" مفسدينا و مبذرينا و باعة و مسخري مواردنا لغيرنا ثم يقول كل قائل منا في بلاغة معجزة و قدرة مذهلة على "الإيصال السهل" و "التأويل الجريء" إنه تسخير الله لنا ما يصنع الآخرون في إشارة إلى "الاصطفاء على العالمين بتأويل مجحف و مغالط لقول الله في "التسخير" و فعله في ملكه و خلقه و هو العدل الحق. فهل يعقل أن العالم بملياراته السبعة التي تزيد من البشر مسخر ـ بعبقرياته الفذة و عمله الدءوب و إنجازاته المتميزة و كفاح أهله الدائم و عطائهم و إبائهم و نخوتهم و استقلاليتهم و حبهم العمل و التميز و القوة و المنعة ـ لشعب لا يتجاوز عدد سكان أقل أحياء إحدى مدن أو عواصم دول هذا العالم التي تعد بالمئات؛ شعب ينبذ سواده الأعظم العمل و تحبذ "صفوته" اصطياد المال العام و الكسب المشبوه في مياه التسيير الضحلة؟
ضيقة هي الآفاق... في ظل ممارسة النفاق
و يظل النفاق معشعشا بأوجهه المختلفة في نفوس أغلب سياسيينا و إعلاميينا وسيلة مثلى لقضاء الحاج في بلاط الأقوياء و "سلاحا" عاتيا للفتك بـ"الأعداء حين البأساء و الضراء و المنافسة الشعواء على بقايا مآدب اللئام من الممسكين بكراسي تسيير المال العام في حمى أهل المنعة و الجاه من أضرابهم. و لأن النفاق خسيسة ضاربة في القدم فإنها هنا بذات قدم البلد و نفس درجة عمق تغلغلها في أنسجته و روحه من جراء "السيبة" حيث لم تسلم النفوس الخبيثة منه على مر كل الحقبالمشكلة تاريخه المذبذب تحمل المهجُ مشعله و ترتدي لذلك كل لبوس قشيب يتجلى في أسماء الأسر اللامعة و القبائل الوافرة "ظلال الوجاهة" الزائفة المحفوفة بفاتن الشعر المجامل المغالط و متملق الخطاب و كاذب الدعاء في الصميم. و أما أشد و أقبح أنواع نفاق العصر الذي وجد هنا نفسية مواتية و جوا ملائما و أرضا خصبة فإنه التملق السياسي و صنوه الإعلامي، و إذ الأول مفسدة للشأن الوطني فالثاني مضيعة للحال العام.
ولعل أغلبنا لاحظ، كما هو حال أغلب من سبقونا منذ الاستقلال، في فلك السياسة و دوائر الصحافة و الإعلام وجودَ وجوه ثابتة خلال عدة عهود و قد تدثرت بثوب المدنية و العسكرية تارة، والمحافظة و التدين و التقدمية تارة أخرى، يُردد أصحاب أقنعتها كل ما يُرضى الأنظمة السياسية القائمة بصرف النظر عن سياساتها أو توجهاتها. إنهم أساتذة فى الانتهازية، وخبراء في فن دغدغة مشاعر الحكام و المتنفذين و رجالات المال و المناصب التسييرية الكبرى وإعطائهم صفة القداسة و الحصانة المطلقة.
و أما المنضوون تحت لواء الإعلام و الصحافة، تعديا على مهنة نبيلة شعارها "قلة المردود و بالغ التعب"، هؤلاء يكتبون نفاقا و تزلفا المقالات بإتقان شديد لفن التلون بمائة وجه و قناع وينعشون المدونات في "عبقرية طرح و قرار" و "حكمة توجهات" كل نافذ أو قوي بالمال دون حياء من مهاجمة من كانوا يمدحونه حتى لو تمر على ذلك إلا ساعات قليلة أو لحظات عابرة.
هؤلاء و أولئك هم من نراهم يبادرون فيتقدمون التعازى فى المآتم و الورود و الزهور في الأفراح، ويهنئون نثرا و شعرا بمناسبة الاحتفالات الرسمية و الأعياد الدينية والوطنية ولا يتخلفون عن حضور كل دعوة تصلهم من بلاط الأقوياء. و لقد شكل هؤلاء طبقة سميكة عاتية و شبكة مصالح اجتماعية ومالية وسياسية مع كل القوى النافذة بهدف حماية المصالح الضيقة وتأكيد الاستمرارية في رحاب النافذين و الوجود فى واجهة مراكز التأثير في القرار.
هل ننبذ داء الكبر و خيبة الكسل؟
لا شك أن أفراد المجتمع القبلي و الإثني الموريتانيين كما هو الحال بالنسبة لبعض بقايا مجتمعات "الهنود الحمر" في أمريكا الجنوبية (كندا و أمريكا) و الوسطى و الشمالية (اللاتينية) و مجموعات شعب "الأبورجين" في أستراليا و بقايا قبائل "بابوزيا غينيا" في المحيط الهندي و أخرى متفرقة في أعماق أدغال و أحراش و فوق صفحات أنهار بعض دول "نمور آسيا" و عمق شبه القارة "الهندية" و عدد متناقص من قبائل الغور الافريقي كـ"المايماي" و "البيكمي" (الأقزام) في دول حوض"الكنغو" الكبير، ما زالت عقلياتها عصية على الحداثة في بعدها الحضاري و رافضة الانصياع لدولة القانون و النظام و المساواة و أداء الواجبات بإخلاص المواطنة و روح و الانتماء للدولة في مقابل الحصول على الحقوق المكفولة. و المجتمع "الموريتاني" عبارة عن مجموعة اجتماعية تكره غالبيتها العظمى و تأبى ـ ما استطاعت إلى ذلك سبيلا ـ الخضوع لكل سلطان عدى سلطان المال و تُحرك جل أفرادها غريزةُ التملك من دون جهد يبذل و التسلط على الرقاب بلا منازع كما أنهم يكرهون الانضباط و التوجيه. و هم بذلك قد ظلوا مشتتين بين "الإمارات" الغير مستقرة و "المشيخات" المتنافسة يقتتلون ضمن "طرق" متعددة، يختلفون تارة غطرسة و صلفا و ادعائية و يهادنون تارة أخرى خنوعا و نفاقا، لا يجمعهم فضاء موحد و لا ينصاعون لسلطة جامعة ملزمة بالنظام، حتى جاء الاستعمار حاملا في جعبته بعض الحيل لتحصيل و جمع المال الذي يسعون إليه بلا ضوابط و لا عملا ليتمكن من تقريب شتاتهم إلى المدن التي أسس حول إدارة مرنة تناسب حدتهم و تمردهم و أسواق مغرية تستدرجهم بها إلى المركز. و لكن الذي عجز عنه هذا الاستعمار، الذي بنى في كل المحيط المجاور مدنا و شيد دولا- هو تخليص المجتمع الموريتاني من عقدة "الكبر" و "الاستعلاء" و "نقيصة النفاق" و "الكسل" و "نبذ الجهد المفيد" و "بعد روح التقاسم" و "التعاضد" و "العدل" و "البذل" و "الإخاء".. أوجه تحتاج تحقيقا و ما زال هذا المجتمع يرفضها و يفضل عليها "رداءة حرية الشتات" و "سلطة الغاب". فهل يبرز من يرفض هذا الواقع و يحمل شعلة التغيير؟
عسى نتبع صلاتنا امتناعا عما عنه تنهى
صحيح أننا نشاهد أمواجا و نحن نصلي في المساجد و تلك مكرمة قصوى و نعمة جُلى تحسب لنا بعدما تعدد المساجد و لم نكن لها عاهدون و تضاعف المؤذنون و كثر الأئمة و المصلون، و إن كانت الصلاة لا تهدي سوادنا الأعظم ـ كما أراد لها الله أن تفعل و بلغ بذاك الرسوله الأكرم ـ عن القيام بعدها بالغش في التجارة و التطفيف في الكيل و التحايل على المال العام و الخاص و ظلم بعضنا الآخر و الاعتداء عليه في ماله و عرضه و المبالغة في تحية بعضنا البعض بلا لم يحييه به الله تزلفا لنيل فتاة مال يصيبه و وظيفة يدعى إليها من غير امتحان أو ترقية أو حتى وجه حق في المستوى و الأداء. هي الصلاة واجبة لا يسقطها طمع و لا يمنع عنها انحراف و لكن الأولى أن تكون خالصة لله مشفوعة بالتقوى الذي إن عمر النفوس ضمن لها الخير و الجاه و أمن النفزس من شرورها.
عندما يكون للنفاق نصيب في النفوس
في هذه البلاد لا تجدي صرخات الاستغاثة نفعا، و لا تغير التنبيهات وضعا اختل، و لا يستقيم عود اعوج، و لا ينتصر حق ظهر و لا يزهق باطل قهر، و لا يتغير ظلم أخذ مداه و استشرى، و لا ينخفض سعر ارتفع إجحافا و عمدا، و لا يوقف ضوء أحمر سيارة، و لا يرتد مفسد عن فساد و لا مختلس عن تبذير مال البلاد و نهب حقوق العباد. و إنه و هذا يكمن بيت العجب و مضرب الحيرة في سيئ السبب لهذه الحالة التي ليست وحدها الدولة متمثلة في أفرادها بأعظم مسؤولية فيها من مسؤولية أفراد الشعب جراء رضوخهم لظلم الأقوى و في شدة وطأ ظلمهم على من هم دونهم و تحث أقدامهم.. إنه قانون الغاب على أيدي أهل النفوس الآثمة و الألسنة الرطبة بالمغالطة بالدين.. أليس في هذا علامات النفاق و الصد عن قيم الدين؟ و إنه لكذلك بالنظر لحال المعاملات التي تزداد سوء و الظلم الذي تتسع رقعته اتساعا و تشتد آثاره وقعا على المستضعفين وسط أزيز يقوى برفضه و الاستعداد للتصدي له. و إن المتتبع لما نشرته منظمة الدفاع عن المستهلك من الأرباح الخيالية التي تحققها القلة القليلة المتخمة من المتحكمين في التجارة و الجمارك و الاستيراد على المواد الاستهلاكية ذات الصلة بعيش المواطن المغلوب على أمره لهاله حجم الظلم و اللامبالاة بحاله، و قد ضربت المنظمة في تقريرها مثلا بالخبز و السكر و الدقيق ليتبين حجم الكارثة و سوء الحالة و البعد عن العدل و الرحمة و ضرب عرض الحائط سلطة القانون. فمتى تنقشع قمة النفاق الذي طال ليله و يظهر من يأتي البلاد بقبس يشع العدل.
هل أن "النفاق الاجتماعي" لا يكدر مزاجنا؟
ليس الوعظ المنتشر عندنا هو ذلك "المنطق الرفيع" المنبعث بإخلاص من القلوب المؤمنة يريد وجه الله و إصلاح و خلاص المجتمع. بل إنه أصبح قناع يخفي كل أمراض القلوب التي يعاني منها أكثر الناس و هم في عرين الطمع و قلاع النفاق يمجدون كل صغير سبقهم إلى أعلى سلم المال الحرام و الجاه المصطنع و القوة الوهمية و يهدونه تَجاوُزهم في سبيل إرضائه مسطرة كل القيم و يضربون تقربا إليه عرض الحائط بسمو النفس و عزتها.
و ليست كذلك الدعوة المعلنة للرجوع إلى مسطرة الأخلاق المحمدية السامية بمنطق العطاء اللفظي الجزل المنقى في تركيبه من شوائب الضياع إلا لحنا "نشازا" على ألسنة المفوهين من الشعراء و الكتاب النثريين في دائرة الأدب و الإعلام المبتورين من لبهما و جوهرها: الصدق و الشجاعة.
"إنها الازدواجية" بمظهر التدين و الأخلاق في الشكل و اللفظ على خلفية ضمور الفعل الصحيح و الإتيان عمدا كل عمل مخالف على كيفية "صلف المغالط" من ظلم و نهب و فساد و انتقائية و إقصاء و زبونية و وساطة بالسطو و الاعتداء السافر على الضعفاء بدثار و لبوس كل المفاهيم المجتمعية في صميم روح قبيلتها و تراتبيتها في صميم "السيبة"؛ ازدواجية لا تخفى على كل ذي لب و تدعى "النفاق الإجتماعي"، الذي يثيره تفوق الموريتانيين في الجانب الدعوي اللفظي و الشكلي للأمجاد الغابرة، و المسلكي الذي يلبس عبثا و مغالطة دثار التدين، الأمر الذي يكرس بالمقابل تراجعهم المكشوف في الجانب السلوكي والأخلاقي و عجزهم عن بناء الدولة الجامعة المانعة المستظلة بسقف القانون. فهل في البلد من كل مال الدولة الذي سرق و طاله الفساد داخليا و خارجيا أثرٌ تجلى في صناعة تشغل الموطنين و تؤمن لهم قوتهم أو تجمعات سكنية تؤويهم أو مرافق تلبي مطالب الحركية المدنية و لتتمخض عن آثارها الإيجابية على المواطنين؟ أليس من المحير في ظل هذا الواقع الذي يراوح مكانه منذ الاستقلال أن ترى العقلية السقيمة التي سبقته و لحقته و كرسته ما تزال مستشرية في كل النفوس و كأنها مجمعة على أن لا تبغي بها بدلا و لا تريد عنها حولا؟ فهل نحن أمة لا يكدر النفاق مزاجها؟ أم أن رياح التحول لم تهب بعد على عاتي الجمود