رحل الزعيم الكوبي فيديل كاسترو عن عمر يناهز التسعين، بعد رحلة سياسية طويلة امتدت على خمسة عقود، بدأت في شكلها الأكثر تشخيصاً في ديسمبر 1956 على قارب متهالك ضمه مع الطبيب الأرجنتيني أرنستو تشي غيفارا، ومجموعة من ثمانين مقاتلاً في رحلة من الساحل المكسيكي إلى شواطئ كوبا التي كان يحكمها باتيستا ناطور الاستثمارات الأمريكية في صناعة قصب السكر، والسيجار الكوبي، وضامن استمرار عبودية المزارعين الكوبيين السود بقوة جيشه القمعي الذي كان يعد بعشرات الألوف، والذي كان من المفترض أن يتمكن من سحق تلك الثلة من المقاتلين بكل سهولة، كما فعل سابقاً مع محاولة فيديل كاسترو، الانقلاب على الديكتاتور نفسه في يوليو 1953.
ولكن انصهار أولئك المقاتلين مع معاناة الفلاحين الفقراء الذين احتضنوهم، واقترابهم من تشكيل مشروع شامل لتحرير الشعب الكوبي يقوم على إلغاء مبدأ التمييز العنصري ضد السود من سكان الجزيرة، من غير ذوي الأصول الأرستقراطية البيضاء من سلالة مستعمريها الإسبان، الذين كان محظوراً عليهم المشاركة في جميع الأحزاب المحلية، باستثناء الحزب الشيوعي الكوبي، الذي لم يرق له في بادئ الأمر مشروع فيديل كاسترو ورفيقه تشي غيفارا، حيث أن كاسترو نفسه لم يكن ماركسياً من الناحية الفكرية في تلك المرحلة على الأقل، إنما محملاً بشحنة كبيرة من أفكار محرر أمريكا اللاتينية من مستعمريها الإسبان سيمون بوليفار في مطلع القرن التاسع عشر، الذي بنضاله تم تحرير فنزويلا، كولومبيا، بنما، إكوادور، بيرو وبوليفيا، في حلم مزدوج لتحرير شعوب أمريكا اللاتينية من مستعمريها الإسبان، وتوحيدها في دولة وطنية واحدة.
وصف المفكر نعوم تشومسكي الثورة الكوبية بأنها حدثت في غفلة من الزمن، قبل أن يستيقظ على ضوضائها المارد الأمريكي، الذي كان لايزال منشغلاً في ترتيب سيطرته على موارد القارة الأوروبية في مشروع مارشال ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتعثره في هضم اليابان اجتماعياً، واستقلالها اقتصادياً، الذي باستيقاظه بدأ مشروع العمليات السرية الأمريكية في أمريكا اللاتينية الذي قاده فعلياً وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر، والذي قام على مبدأ تمويل ودعم مجموعات من المرتزقة والمجرمين، سواء كانوا مجموعات عسكرية، أو شبه عسكرية للقيام بانقلابات عسكرية وعمليات إبادة جماعية تمهد الطريق لإقامة دول عسكرية أمنية مسؤولة عن تأمين سلامة الاستثمارات الأمريكية في تلك الدول، التي أصبحت تعرف بأنها الحديقة الخلفية للولايات المتحدة تفعل بها ما تشاء، وهو ما تجلى مأساوياً في الانقلاب على سلفادور الليندي في تشيلي في 1973، وغيرها من عشرات العمليات السرية القذرة التي وثقها في كتابه الموسوعي المؤرخ وليام بلوم، الذي حمل عنوان «قتل الأمل»؛ التي تمظهرت كوبياً في 1961 حينما غزت في عملية خليج الخنازير مجموعات عسكرية مدعومة وممولة من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية، التي تمكن كاسترو من الصمود بوجهها، ولكنها كانت برأي الكثير من المؤرخين النقطة الفاصلة التي اضطر فيها كاسترو ببراغماتية سياسية محضة إلى الانخراط في تحالف عضوي مع الاتحاد السوفييتي آنذاك، على الرغم من عدم اتفاقه مع منهج الاتحاد السوفييتي في تقاسم مناطق النفوذ على المستوى العالمي مع الولايات المتحدة، في شكل أشبه بالامبريالية الاستعمارية المزوقة بلبوس ماركسي، وهو ما تجلى بشكل واضح في العلاقة المتشنجة بين رفيقه تشي غيفارا، والاتحاد السوفييتي، وتبدى عملياً في حجب الاتحاد السوفييتي للدعم المطلوب عن تشي غيفارا نفسه، حينما كان يقاتل في حرب تحريرية على الطريقة الكوبية في غابات بوليفيا عام 1967، التي انتهت بقبض عناصر مدعومة من المخابرات الأمريكية على غيفارا نفسه، وإعدامه بطريقة وحشية نمت عن هلع قاتليه منه.
لم تكن الثورة الكوبية لتتمكن من الصمود لولا احتفاظها بقاعدة اجتماعية عريضة وحقيقية، قامت على اعتبار السلطة واجباً، وليست احتكاراً للوطن وموارده كملك شخصي للحاكم، كما هو حال كل طغاتنا نحن العرب، بحيث لم يأت مؤرخ، حتى من أعداء كاسترو نفسه، على ذكر أي حالة فساد مالي تتعلق به أو بطانته، فهو ظل يعيش في منزله المتواضع كل حياته، ويركب سيارته المتواضعة، ويقودها بنفسه إلى أن أنهكته الشيخوخة، ذلك كله بالتوازي مع اعتبار المواطنين كلهم متساويين في الحقوق والواجبات، دون أن يكون هناك تمييز على أساس عرقي ضد الملونين من مواطنيه السود، كما كانت الحال قبل الثورة الكوبية، أو طائفي كما هو الحال في كثير من مجتمعاتنا العربية، وهو ما شكل البنية الأساسية في دفاع الفقراء في كوبا عن منجزاتها طوال سنين الحصار الأمريكي الخانق عليها، بعد فشل عملية خليج الخنازير، لإيمانهم وإحساسهم بأنهم يدافعون عن وطن لهم، ودون أن يشعروا، كما يشعر الكثير من الأعراب بأنهم عابرو سبيل في وطن يملكه حكامهم فقط، ودون أن يتملكهم إحساس بالانتماء لذلك الوطن إلا من الناحية الشكلية.
حققت الثورة الكوبية تنمية حقيقية شكلت مصدر التوازن الأساسي في المجتمع، قامت على توفير خدمات طبية مجانية بالمعايير الغربية نفسها، وبما يوازي طبيباً متخصصاً لكل مئة مواطن، وهو ما يفوق كل الدول المتقدمة ودون أي استثناء، ووفرت التعليم لكل المواطنين مجاناً في كل مراحل التعليم الأساسي والثانوي، وصولاً إلى الجامعي، ما جعل الفقراء يستشعرون قيمة ثورتهم وأهمية الحفاظ عليها. وهو ما كان ملهماً في تقدم التيارات السياسية البوليفارية اليسارية في فنزويلا وبوليفيا والبرازيل قبل الانقلاب الأخير فيها على رئيستها المنتخبة بدعم أمريكي، التي استلهم جميعها تجربة الشعب الكوبي في التنمية الوطنية الحقيقية، وليس الدعائية لتجريع الشعب وصفات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي كما هو الحال في غير بلد عربي سابقاً وراهناً.
دعم نظام كاسترو الفقراء والمستضعفين في كل مكان، وبكل ما أوتي من قوة متواضعة مقارنة بحجم القوة الأمريكية الخانقة على جزيرته الصغيرة، فكان أطباؤه أول الأطباء الذين وصلوا إلى المشافي السورية إبان حرب أكتوبر 1973، وكانوا أول من علم جراحة الحروق للجراحين السوريين. وساند كاسترو ورفيقه غيفارا الثوار الجزائريين في حرب التحرير الجزائرية بالعتاد والإعلام، وحتى المقاتلين؛ فكانت الصداقة الحميمة التي جمعت الرئيس الراحل أحمد بن بلة بكاسترو وغيفارا ناتجاً طبيعياً لذلك الانصهار العضوي. وتاريخياً كان المقاتلون الكوبيون مشعلاً للتحرر من المستعمرين في كل أرجاء القارة السمراء؛ أهم لحظاتها الفاصلة حينما قامت القوات الكوبية عام 1975 بصد غزو قوات نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لأنغولا التي كانت للتو قد تخلصت من مستعمريها البرتغاليين في حرب تحررية على الطريقة الجزائرية.
والأهم من ذلك كله، هو الحقيقة التي تخالف كل الدعاية الغربية السوداء، ضد نظام كاسترو، التي وثقتها سنوياً منظمة هيومان رايتس ووتش حول عدد المعتقلين السياسيين في كوبا، بأنه لا يتجاوز العشرات، وهو عدد لا يستحق نظام كاسترو الثناء عليه، فالطبيعي ألا يكون هناك أي معتقل سياسي بغض النظر عن مسوغات ذلك سياسياً ولكنه رقم جدير بالمقارنة مع معدلات المسجونين بالنسبة لعدد السكان في الولايات المتحدة، حيث هناك شخص واحد مسجون من كل 13 مواطنا أسود، وهناك ما يربو عن 2.3 مليون معتقل في سجونها التي تديرها شركات خاصة، يعمل فيها المساجين فعلياً كعبيد غير مأجورين لصالح شركات خاصة أخرى لإنتاج المفروشات والمشروبات الكحولية، وغيرها، بناتج يصل إلى 40000 دولار للسجين الواحد سنوياً؛ ودون أن يتطرق الإعلام الغربي الذي يدعي الشفافية إلى ذلك إلا لماماً و في الزوايا المعتمة منه فقط. أما نحن العرب المسجونون في أوطاننا، فنتذكر دائماً تراجيديا مفقودينا بعشرات ومئات الألوف، على امتداد الجغرافيا العربية، التي شكلت سجونها مدناً تحت الأرض، جريمة من فيها أنهم ولدوا في زمن لطغاة العرب، ولم يولدوا بين فقراء وأبناء الثورة الكوبية.
د. مصعب عزاوي كاتب سوري
القدس العربى