حزب البعث قطر موريتانيا يصددر عددا جديدا من مجلته "الدرب"

ثلاثاء, 12/06/2016 - 10:03

هل الشهادة العلمية في موريتانيا نقيض للرفاه المادي..؟!

في بلد اختل فيه كل شيء موزون، يجد هذا السؤال مكانه الطبيعي في رزنامة الأسئلة الشاذة في شعوب أخرى ، والمشروعة عندنا ، التي يطرحها المواطنون البسطاء بعفوية منفلتة. كيف.. لا، وقد أصبح التعليم عنوانا ، في بلادنا، للبطالة و الإهانة والانحطاط الاجتماعي!. حدثنا، مرة، أحدهم، وهو صاحب شهادة علمية عالية، أنه كان يسير ماشيا على قارعة أحد شوارع نواكشوط ، فإذا بصديق له تعرف عليه في عقد ثمانينيات القرن الماضي ، يوم كانا شابين. أما أحدهما فكان متخرجا من الجامعة بشهادة علمية ، ويتحدث لغات عالمية، وأما الثاني فلم تحط له قدم على طاولة الدرس، ولم يكن له حظ من التعليم المحظري التقليدي.  في تلك الحقبة ، كان للشاب البدوي، شبه الأمي، أحد الأقارب ، مسئولا كبيرا في أكبر مؤسسة مالية في البلاد، وكان يقدم تسهيلات لذلك الشاب ولبعض الشباب الآخرين من أقاربه غير المتعلمين، تتمثل في التوسط بين كبار الموردين للبضائع وبين تلك المؤسسة المالية. فكان الشاب البدوي – الذي لا علم لديه عن البنوك وعملها – يأتي لأحد التجار الكبار ويخبره أن له علاقة بذلك المسئول المالي، وأن بوسعه السعي بينهما ليحصل على عملات صعبة.  وهكذا، أصبحت هذه حرفة تجلب دخلا ماليا عظيما وسهلا، لا تتطلب شيئا آخر غير التوسط. كما تحولت، مع تطور المحسوبية، إلى سلطان لا يرد صاحبه أمام التجار الكبار ، من المحتكرين للسوق الاقتصادية. وهكذا، دارت عجلات الزمن من ثمانينيات القرن الماضي  إلى أيام قليلة من الآن ليحصل هذا اللقاء بين رجل يحوز شهادة علمية عالية ومستوى أكاديميا مشهودا، وبين رجل لا يملك قسطا من العلم والمعرفة . الأول ما زال يمشي على رجليه ويعاني من الفاقة والفقر ، والثاني يتكئ على أريكة سيارة  من فئة ( فى. إكس. فى)، من آخر إصدار . فتبادل الرجلان التحية ، وكان لسان الحال بينهما يطرح هذا السؤال: هل الشهادة العلمية في موريتانيا نقيض للرفاه المادي ؟!. ومع أن الجواب على هذا السؤال لا يمكن أن يكون إلا بالنفي ، انسجاما مع فطرة الأشياء وقوامة المنطق، إلا أن واقع الحال ، في موريتانيا، يفرض جوابا بالإيجاب : أي أن العلم والتعلم  عندنا كانا سببين في " ضياع" كثير من الوقت ، وكانا سببين في حرمان كثير من حملة الشهادات العلمية العالية؛ لأن الأنظمة التي تعاقبت ، بعد المرحوم المختار ولد داداه، كانت معادية للعلم ولأهله ، وكانت سندا قويا للجهل وأهله . ومن المؤلم أن بعض حملة الشهادات العلمية باتوا يفضلون إخراج أبنائهم من المدارس إلى المتاجر الصغيرة بذريعة كسب الوقت وتحصيل المال في فترة الشباب وحيويته، وبعضهم يخرجون أبناءهم من المدارس إلى المحاظر( الكتاتيب) بحجة كسب المستقبل في الآخرة ، بعدما يئسوا من كسب الرفاه في الدنيا!!. والحاصل أن هذه التصرفات هي ترجمة  لعقول مريضة بالواقع البائس، وتعبير يائس عن إحباط مدبر. فتصوروا مستقبل بلد ليس فيه طبيب من أبنائه، ولا مهندس من أبنائه، ولا طيار، ولا متخصص في الماء، ولا في الكهرباء، و لا في الزراعة، ولا في البيطرة، ولا في الإعلام، ولا في التصاميم العمرانية، و لا في علوم العسكرية ... وتصوروا بلدا ليس فيه مدارس ولا معاهد و لا جامعات!! وكل أبنائه يزاولون البيع والشراء في الحوانيت الصغيرة ، أو في بورصات السيارات والقطع الأرضية ، أو بورصات النفاق السياسي!!. وتصوروا عقولا تسعى لكسب الدار الآخرة بالجهل بأمور الدنيا وأسباب الحياة الكريمة فيها، وكأنها وضعت يدها على المفتاح المناسب لحل أزمة البلاد !. والحق أنه ما لم تحصل ثورة مجتمعية مضادة للجهل وأهله ، فلن يكون الجهل وأهله إلا " طليعة" في هذا البلد وسببا في انحطاطه ،وانهياره الاجتماعي والقيمي والعلمي المتواصل...

 

من يتحمل حياة المتسولين في شوارع نواكشوط..؟!

تتفشى في نواكشوط على نحو متسارع ، أكثر من أية مدينة وطنية أخرى، ظواهر اجتماعية شاذة لم تكن معروفة في مجتمعنا في الماضي.. فقد تفشت فيه ظاهرة المخنثين الذين أصبحوا يشكلون فئة اجتماعية قائمة ، متميزة ومهيمنة على حرفة ضرب الطبول والدفوف في الأعراس  والمناسبات الاجتماعية، ولهم

  رطانة مشوهة خاصة بهم ، تسمى شعبيا ب " كلام كورجيكينات" ، أي الشاذون جنسيا. وهي فئة تحترف سلاطة اللسان وقذارة الألفاظ ووقاحة السلوك وانتهاك الأعراض والتشبه بالنساء . وهذه الفئة المنحطة لا تهيمن فحسب على "حرب السلوك " وجني الأموال من الحفلات والأعراس ، وإنما باتت، وفقا لأحاديث الموريتانيين،   تسيطر على صناع القرار في الدولة من خلال العلاقات الوثيقة التي تربط عناصرها مع زوجات  وعشيقات كبار الدولة والمسئولين فيها: فالترقية الوظيفية والتوظيف والتحويلات الإدارية والتعيينات السياسية ، والتسهيلات المالية والاقتصادية لا سبيل إليها إلا لمن له علاقة بأحد أفراد جماعة المخنثين والمثليين. غير أن ثمة ظاهرة اجتماعية  تتفشى، هي الأخرى، بسرعة كبيرة. إنها ظاهرة احتراف  التسول، الذي أصبح يشوه وجه المدينة المشوهة ، أصلا، بجبال القمامة والمستنقعات الآسنة. فالمتسولون ، اليوم، تعج بهم شوارع نواكشوط   من كل الأعمار والأعراق. إنهم يقفون ، منذ انبلاج الفجر، في طوابير لا بداية لها و لا نهاية على حواف الطرقات والأزقة ، وبين المركبات الصغيرة والشاحنات الضخمة ورافعات الأثقال. والأغرب من ذلك، عزيزي القارئ، أن هؤلاء المتسولين منهم الشباب الأسوياء  والأصحاء، ومنهم الشيوخ  الهرمون ، ومنهم العجائز المقوسات ، ومنهم المعتوهون ، والمعوقون بدنيا ، ومنهم  شتى المشوهين عقليا وجسديا: منهم المقعد، منهم الأعمى، والأصم، والأكمه، ومنهم من يمشي على ركبتيه، ومن يزحف على بطنه، ومن يقفز على كفيه ، ومن يتزحزح على أسته ، ومن يدفع بنفسه في عربة يدوية، ومنهم يؤجر شبانا لدفعه على مثل تلك العربة ... وكل هذه  الطوابير زادت بشكل هائل بعد وصول السوريين إلى موريتانيا، هربا من بطش نظام عائلة الأسد وحلفائه الروس القياصرة. فالسوريون يتسولون بأعداد كبيرة في نواكشوط، وخاصة النساء والأطفال والفتيات. وقد انضم إلى هذه الأعداد تدفق آخر من المتسولين من " الأعجام" ، أي سكان أزواد في شمال دولة مالي، الذين فروا،  بأنفسهم، من الحروب والجفاف هنالك. ومن ينظر في الصباح الباكر إلى شوارع نواكشوط  يتبادر إلى ذهنه أن طلائع المتسولين هم طلائع مظاهرات . وكل هذه الظواهر الشاذة والمشينة كأنها تجري في بلد ليس له سلطات. والسؤال المطروح – بصرف النظر عن المشاهد المقززة  في هذه الظاهرة- هو من يتحمل المسئولية فيما لو  قتل هؤلاء أو بعضهم في حوادث السيارات التي قلما يمر يوم دون ضحيا لها بالعشرات في أماكن أكثر أمنا!، خصوصا أنه تبين أن كثيرا جدا منهم  يتصنع " الإعاقة" الجسدية والعقلية لاستدرار عطف الناس وجيوبهم، وأن كثيرا منهم يتصنع المسكنة بعدما أصبح التسول ، بالنسبة لهم، نشاطا " اقتصاديا" يدر مداخيل عظيمة قياسا مع أي نشاط تجاري أو خدمي آخر في البلاد!؛ وحتى بات الموريتانيون يتندرون أن من بين هؤلاء المتسولين من يعمل لصالح بعض كبار المسئولين في الدولة، ومنهم من يتندر أن بعض المسئولين يفكر جديا في الاستقالة من منصبه ليدخل عالم التسول المربح في موريتانيا!!. فهل تتدخل السلطات لوضع حد لهذه الظاهرة المقرفة  قبل أن يقتنع المجتمع كله بالفائدة الاقتصادية للتسول على حساب الأنشطة الاقتصادية الشريفة وعلى حساب التعليم، خصوصا في هذه الظروف الاقتصادية المزرية، التي تمر بها بلادنا ..

 

لمصلحة من  الحرب على الموصل..؟. (ح2 )

 (...) فما يجري في الموصل لا يمكن فصله عن آلاف السنين من الصراع بين العرب ، من جهة،  و بين الفرس والروم، من جهة أخرى، منذ أقدم الحقب.  فالعراق ، بحكم موقعه الجغرافي  المجاور للفرس ، ومن منطلق فاعليته في التاريخ العالمي وإسهامه الغني في الحضارة البشرية ، لم تتوقف عنه موجات العدوان الفارسي  الأكثر شدة و قسوة. ويحدثنا التاريخ أنه كلما تكسرت موجة عدوانية  فارسية على العراق تبعتها موجة أخرى أشد عنفا ووحشية.  وظل هدف موجات العدوان الفارسي المتتالية ، عبر الحقب، تتخذ صبغة واحدة  هي الصبغة الحضارية المتمثلة في تدمير المنجزات الحضارية والآثار التاريخية . غير أن الروح العدوانية ستبلغ ذروتها  بعد مجيء الإسلام  وتهاوي الحضارة الفارسية على  أيدي الفاتحين العرب؛ حيث اختلط  الحسد الحضاري  بالحقد المجوسي على الرسالة الإنسانية الجديدة التي حملها العرب إلى العالم. وإذن، لا غرابة في ما يجري  في العراق بالنسبة للذين يعرفون التاريخ. فالموصل، اليوم، التي تحاصرها جحافل الفرس بشتى عناوينها ( حرس ثوري، حشد طائفي صفوي، حكومة عملاء...) ، هذه الموصل عرفت حصارا تاريخيا وحشيا مماثلا من قبل الفرس، قبل 273 سنة ، على يد الطاغية الفارسي (نادر شاه ) بعدما احتل ودمر جنوب ووسط العراق، لتستمر تلك السلسلة من الحملات العسكرية المتلاحقة ، حتى قادسية الشهيد صدام حسين.  وكان ذلك الحصار مندرج في النزعة التوسعية الفارسية نحو الأراضي العربية.ويقول المؤرخون إن جيش ( نادر شاه) بلغ تعداده أكثر من ثلاثمائة ألف مجند من المرتزقة . كما أن ( نادر شاه) رمى من وراء حصاره للموصل إلى < فتح باب حيوي يقوده إلى الأناضول وأوربا لأن الموصل كانت مركز تقاطع مواصلات تجارية  بين الهند وإيران وتركيا وأوربا>.  و ما حظيت به الموصل يومئذ  من أهمية استراتجية ، تحتفظ به الموصل   اليوم  خصوصا ما يتعلق بتماسها بتركيا الحالية وإمكانية ربطها بمدينة حلب التاريخية؛ و هذا ما يعيد للذاكرة صورة العراق عندما كان ساحة للصراع بين الفرس والعثمانيين في القرون الماضية. وكما ضعف العثمانيون عن تقديم العون للعرب في << ملحمة حصار الموصل>> يومئذ، لا يتوقع أن يقدم أحفادهم عونا للعرب في الملحمة الثانية  لحصار الموصل  ؛ بل سيبقى العراقيون خاصة والعرب عامة هم أصحاب الصمود والتضحيات، كما كانوا في صفحة الحصار الأول. فقد سجل التاريخ أن الموصل ظلت عبر الحقب قاعدة عربية حصينة لصد التوسع الفارسي في العراق. فشكلت عقدة تاريخية ونفسية  للطغاة الفرس. وبذلك يتأكد أن هذه الحرب المستمرة على العراق ، والتي تأخذ مدينة الموصل ، الآن، عنوانها البارز ، مثلما حملت ادياله وصلاح الدين والأنبار والفلوجه قبل هذا عناوينها، هي جزء من حركة التاريخ الصراعي والحضاري الشامل مع قوى الاستلاب الحضاري المتمثلة في الغرب بشتى يافطاته الأطلسية والروسية ، ومع أحفاد الإخمينيين ، الذين تتواصل عاصفتهم الفارسية العنصرية  منذ قرون، بقيادة شخصيات متعصبة عنصرية، متوحشة  متعطشة للدم العربي، ومحترفة للكذب والظلم والخديعة مثل ( عباس باشا الصفوي، الذي قتل أربعة آلاف من أهل بغداد  1622م وأحرق مخازنها وكتبها، مرورا    بطهماسب الثالث، نادر شاه،نركز خان، قاسم خان ، وصولا لآية الشيطان الخميني و جزاره احمد مدني الذي دمر مدينة المحمرة في الأحواز العربية على رؤوس النساء والأطفال العرب  ، ووريث آياته الشيطانية ، الخمنئي، و قاسم سليماني، فبقية الوحوش الفارسية وعملائهم.). إذ لم تختلف بربرية الفرس ضد العراقيين  اليوم عما ارتكبته طواغيتهم خلال هذا التاريخ الطويل من الوحشية والفاشية ضد العرب،وما ارتكبه طواغيت الروم في حملاتهم الاستعمارية من قبل،والآن في سوريا على أيدي أحفاد روسيا القيصرية. فقد قتلوا الأطفال في أحضان أمهاتهم و استباحوا النساء في بيوتهن ومثلوا بالشيوخ في معابدهم، وحرقوا الحرث ودمروا الأثر في طريقهم. وما تزامن معركتي الموصل وحلب إلا إعادة لحركة التاريخ بين العرب من جهة، وبين الفرس والروم  من جهة ثانية.. حركة تتخذ ،هذه المرة، تكتيك التواطئ  بين كيري ولافروف لإعادة استعمار وتجزيء الوطن العربي، كما اتخذت صيغة التواطئ بين مارك سايكس وجورج بيكو لاستعمار العرب في 1916م.  فهل تستوعب النخب العربية الخطورة القصوى لما يجري في العراق وسوريا واليمن، وهل يتصرف حكام الخليج العربي ، خاصة، بعقل استرتيجي قبل فوات الأوان لصد موجة الغزاة، أم ستقتصر ردود فعلنا، بمثل الغزال المصاد في الشبكة ورأسه في التراب؟!.  

فيدل كاسترو.. في ذمة التاريخ!!

 

رحل مفجر الثورة الكوبية وصانع التاريخ الحديث للشعب الكوبي عالمنا عن عمر ناهز التسعين من السنين ؛ قضاها في النضال ضد الامبريالية والاستعمار؛ ومن أجل حرية الشعوب ومناصرة قضاياها العادلة. وبرغم الاختلاف في العقيدة الدينية مع هذا الراحل، العظيم بمقاييس الدنيا ومعايير قيم الإنسانية المشتركة، فإنه يجب الانحناء له تعظيما لرجل عظيم قدم إسهاما ضخما وشكل رمزا تاريخيا لا ينسى في مقارعة قوى الظلم والقهر ، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الامبريالي عامة. فالقيم المشتركة بين الإنسانية، مثل حب الحرية وفضيلة دفع الظلم ومناصرة المستضعفين، تحتم على من يحبون هذه اليم ويتقاسمونها مع الإنسانية ومن اكتووا بنيران المجرمين الامبرياليين والرأسماليين أن يرفعوا الزعيم كاسترو على الهام والأكتاف ، وأن ينكسوا له الأعلام الوطنية  ويشيدوا له النصب التذكارية ، ويقرعوا لفقدانه أجراس الأحزان. فما يهمنا في كاسترو، أولا، هو ما قاساه وناضل من أجله لتتحرر ملايين الشعوب من ربقة الاستعمار وقيود الاستغلال الرأسمالي والاستعباد الاجتماعي. وما يهمنا فيه، ثانيا، أنه قائد وزعيم لم يكترث بحطام الدنيا، وهو الشيوعي الذي لا عقيدة أخروية له، فيما رؤساء العرب والمسلمين، الذين " يؤمنون " بالآخرة يسرقون ثروات شعوبهم . وما يهمنا فيه، ثالثا، هو أنه أوفى بالتزاماته الثورية  ومبادئه الشيوعية ، وظل واقفا كالطود العظيم ، لا يهزه ركام الشرق الستاليني المتهاوي ولم يجزع لبراكين الغرب الامبريالي التي أحرقت العالم بالدعاية التضليلية الجارفة ، بينما ركض رؤساء العرب والمسلمين نحوه  ركوض الجرذان من العقبان. فظل كاسترو صامدا  مقدما أروع مثال على القوة في المبادئ الشيوعية التي لا إله لها، فيما  تحللت عزائم رؤساء العرب والمسلمين، تحت ضغط الغرب، كقطع السكر في الماء، وهم الذين يزعمون الإيمان برب العالمين، الذي له الحكم وإليه يرجع  الأمر كله، من قبل ومن بعد!.  وما يهمنا، رابعا، في كاسترو، الذي لا يؤمن بالحساب ولا بالعقاب بعد الموت،، أن بلده، كوبا، ظلت آمنة مطمئنة في ظله، مرهوبة الجانب لأكثر من ستين سنة، وبقيت ترفل في أفضل منظومة صحية وتتمتع بأعلى مستوى  تعليمي ، على نطاق العالم. وها هو يرحل خالي الوفاض ، ليس له حساب ولا مدخرات.  أما رؤساؤنا الذين يؤمنون بالموت وبعذاب القبر وسؤال منكر ونكير ، ويؤمنون بالحساب والعقاب يوم القيامة فقد نهبوا شعوبهم وتركوها في بؤس وشقاء، بعدما حولوا ثرواتها إلى ممتلكات عائلية في حسابات سرية بالبنوك الغربية!. وما يهمنا في كاسترو، وهو واحد من أبعد الناس مسافة وقرابة وعقيدة عن قضيانا القومية والإسلامية، أنه ظل مناصرا عنيدا  لقضية فلسطين، قضية العرب والمسلمين الأولى، وهو الشيوعي الذي تعرض لمئات المؤامرات الإغتيالية من دولة جارة، وهي أقوى وأشرس وأظلم دولة في التاريخ البشري – الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يثنه كل ذلك عن دعم العرب في كل قضياهم العادلة. ولم يساوم بها أو يطرحها للمزايدة  ليخفف بها الضغط عن نظامه. أما أهلها ، من رؤساء العرب والمسلمين، فقد باعوا شعوبهم ومصائرها ومقدساتها  الدينية في أحط برص المزادات الدولية ، في كامب دافيد، ومادريد،وأوسلو، ووادي عربه... والآن تحولوا إلى رجال إطفاء  لمنع الحرائق من الوصول لمواقع العدو النووية!؛ وبقي كاسترو يدافع عن فلسطين وينافح عن أهلها المشردين في أرجاء العالم، إلى أن رحل. ويهمنا، خامسا، في كاسترو أن العالم – بشعوبه وقادته، المعجبين به والحاقدين عليه – يتداولونه خبرا عظيما  بموت رمز من رموز التاريخ البشري وأحد أبطال حركة التحرر العالمية ، وسيسيل في شأنه حبر غزير ، على أنه من أكثر قادة العالم ، في القرن العشرين، تأثيرا في صفحات هذا التاريخ؛ بينما اختفى، وسيختفي باقي قادة العرب والمسلمين بالموت  على فراشهم ، غير مأسوف عليهم، وهم أتفه قدرا  عند الله  وعند الناس جميعا من ذباب صناديق القمامة! وهكذا دخل كاسترو التاريخ قائدا وزعيما، وها هو يخرج من الحياة نظيفا من خيانة مبادئه،  ليسجل بطلا في ذمة التاريخ، على غرار كل الرموز والأبطال الخالدين، ولو كره ذلك الامبرياليون والرجعيون من العرب، والإسلامويون الظلاميون .

 

الخلفية  الحضارية لموريتانيا بين عبث المسير وبخل الممول

 

منذ استقلال موريتانيا تسعى جهات  مرتبطة بفرنسا إلى طمس كلما يرمز لحضارة هذا البلد الأصيل، وكانت أصابع الاتهام مشهرة في وجه  بعض النخب  السودانية التي تبين أنها لم تكن إلا جزءا من ذلك الاستهداف المقيت الذي تنفق عليه فرنسا بواردات موريتانية بحته. 

بعد  استقلا الدولة نشب خلاف على خلفية قرار الحكومة القاضي  بترسيم  اللغة  العربية في التعليم بشكل إجباري بعد أن كان التعليم النظامي محتكرا للفرنسية. وقد اتضح في النهاية أن جهات في الحكومة ـ عدا وزير التعليم وقتها ـ  كانت تهدف من وراء ذلك القرار إلى كبح الخطاب النخبوي الوطني المتزايد والمطالب بالقطيعة مع الثقافة الفرنسية، وكان تقدير الحكومة  يتصور،خاطئا،  أن  قرارها الوهمي  ستعترضه أكثرية من المتفرنسين هم غالبية الموظفين في مرافق الدولة العمومية وبناء عليه ستستعيض الحكومة عن قرارها بالبقاء على ما كان عليه الحال ولكن رياح الوعي الوطني، المدعوم بخلاص الوزير التعليم في الإجراء المعتمد،  وقتها أتت بما لم تشتهه سفن الفرانكفونيين؛ فما هو الحل هكذا لسان حالهم قال؟. لأن الأمور صارت على هذا النحو فلم يبق أمامنا سوى  وضع هذا التعليم الذي  يتوقف عليه مستقبل البلد  الحضاري في وضعية من الاضطراب تجعله يعيش في ارتباك مذهل تعجز القرائح عن تحليله، وبالفعل حقق الفرانكفونيون ما خططوا له وكانت آليتهم  تعتمد تبادل المهام بحيث  تتولى وزارة المالية ، بوصفها الجهة المشرفة  على تمويل مشاريع الدولة الأساسية، مهمة البخل في كلما قد يخدم التعليم وعليه ستتقلص الحاجة في  مجالات الأدب والثقافة والعلوم الاجتماعية بوصفها علوم فكرية ـ تحليلية بغيابها تحجب خلفية  البلد الحضارية وتغيب استيراتيجيته المبدئية في هذا الجو المتلوث بنفايات النفاق, وعلى مستوى  العلوم الدقيقة التي هي علوم فكرية ـ تطبيقية فقد خصت بها لغة المستعمر ليكون المستفيدون منها أقل باعتبار أن تكون النفقة عليها أقل و أن تنحصر تلك الاستفادة  في أبناء الفرانكفونيين! 

أما وزارة التعليم التي هي المؤسسة الأساسية التي يقوم عليها مرتكز البناء فيكلف كل من يعين عليها  ،من طرف أتباع فرنسا، بأن يرغم المناهج التربوية على أن تظل غير مرضية فضلا عن كونها ليست ملزمة لأحد ولا هي محل احترام لأي أحد. والشيئ الغريب أن مؤسسات التعليم في أكثر مجموعات العالم تخلفا تظل تعمل على رفع النفقة  المخصصة لها كلما ازدادت الحاجة لديها إلا مؤسسة التعليم الموريتاني فإنها تقلص النفقة كلما تزايدت الحاجة!!. في أيامنا هذه طبقت  الحكومة  ذلك النهج على النحو الحرفي، تحديدا وزيرتا التعليم والمالية، حيث عمل وزير المالية على تقليص النفقة المخصصة للتعاقد مع الأساتذة والمعلمين بنسبة 60 في المائة عما كان موجودا في السنة الماضية ، هذا في وقت تتزايد الحاجة إلى المدرسين. بينما تولى وزير التهذيب مهمة حصر تلك الاستفادة ، بالنسبة للتعليم الأساسي والثانوي، في المجالات العلمية ومجال اللغات لتكون الفرنسية  المستفيد الأكثر إذ هي لغة العلوم الدقيقة فضلا عن كونها لغة ثانية تدرس لذاتها .  وعلى مستوى التعليم العالي تم فرض أن تكون نسبة 50 في المائة من المقررات تدرس بالفرنسية حتى جغرافية موريتانيا ومدخل الدراسات التاريخية!!.  

يفهم من هذا أن ما يتصوره المجتمع الموريتاني من حكوماته ليس إلا سرابا تظله شموس التقليديين فوق قيعان الفرانكفونيين وأصحاب الأطماع الضيقة، ونتائجه المتوقعة هو بلا شك إرباك المنظومة الحضارية حتى لا يمكن استيعابها في ضوء التفسيرات العقلانية المألوفة.         

 

بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف نقدم لكم جزء من خطاب القي  عام 1943 للرفيق المؤسس أحمد ميشل عفلق عن الرسول (صلى)

 بعنوان : ذكرى الرسول العربي

الشخصية العربية بين الماضي والحاضر(1 )- في مثل هذه الحفلات يخطر لي دوماً سؤال: ما هي قيمة الكلام؟ لم نعرف في تاريخنا زمناً كثر فيه الكلام وطغى على كل شيء مثل هذا الزمن الذي نعيش فيه، ومع ذلك فهو أقل العهود حيوية وإنتاجاً، فهل يكون الكلام إذا مساعداً على الشلل والعقم، بدلا من أن يكون دافعاً إلى العمل وخصب النفس؟ هناك فرق جوهري بين الكلام المرتبط بقائله الذي يعبر عن حاصل شخصية حية وعن موقفها الكلي من الحياة، وبين الكلام المنفصل عن الشخصية الذي لا يعني غير ذهن يلهو ولسان  يهذر. كان العرب شديدي التأثر باللفظ، لأن الألفاظ كانت عندهم حقائق نابضة مترعة بالحياة، فكان يسمعها القلب لا الأذن، و تجيب عليها الشخصية كلها لا اللسان وحده، لذلك كان للفظة قدسية وكانت بمثابة تعهد، تربط الحياة وتتصرف بها، سواء حياة الفرد أم حياة الجماعة.فاللفظة التي كانت كالورقة النقدية تمثل قيمة معينة من الذهب، غدت اليوم مجرد قصاصة من الورق ليس وراءها ما يضمنها، فنحن نرى نفسا فقيرة إلى حد العدم تستطيع أن تغرق ما حولها ببحر من الكلام، وليس من يطالب بأن يكون وراء الكلام عمل يضمنه، فلا غرابة في أن تفقد الثقة وتلتبس الأمور ويكثر الغش والتلاعب وبالنتيجة الإفلاس والفضيحة.نحن أمام حقيقة راهنة هي الانقطاع بل التناقض بين ماضينا المجيد وحاضرنا المعيب. كانت الشخصية العربية كلاً موحداً، لا فرق بين روحها وفكرها، بين عملها وقولها، أخلاقها الخاصة وأخلاقها العامة، وكانت الحياةالعربية تامة ريانة مترعة يتضافر  فيها الفكر والروح والعمل وكل الغرائز القوية. أما نحن فلا نعرف غير الشخصية المنقسمة المجزأة، ولا نعرف إلا حياة فقيرة جزئية، إذا أهلها العقل فإن الروح تجفوها، وان داخلتها العاطفة فالفكر ينبو عنها : إنها فكرية جديبة، أو عملية هوجاء، فهي أبداً محرومة من بعض القوى  الجوهرية، وقد آن لنا أن نزيل هذا التناقض فنعيد للشخصية العربية وحدتها، وللحياة العربية تمامها. يجب أن تتحد الصلاة مع العقل النير مع الساعد المفتول، لتؤدي كلها إلى العمل العفوي الطلق الغني القوي المحكم الصائب..كان انتسابنا لأجدادنا الأبطال انتسابا رسمياً لا أكثر، واتصال تاريخنا الحديث بتاريخنا  المجيد اتصالاً طفيلياً  لا عضوياً. اليوم يجب أن نبعث فينا الخصال ونقوم بالأعمال التي تبرر نسبنا الرسمي وتجعله حقيقياً مشروعا. يجب أن نزيل ما استطعنا من حواجز الجمود والانحطاط حتى يعود الدم الأصيل المجيد فيتسرب إلينا. يجب أن ننقي أرضنا وسماءنا حتى تستأنس أرواح الجدود الأبطال فتهبط إلينا وتستطيب الهيمنة  فوقنا.ظللنا زمناً طويلاً نعيش في جو ثقيل خانق لانه كاذب : طلاق بين الفكر والعمل، بين اللسان والقلب، كل لفظة نقولها تحدث جلبة الوعاء الفارغ، ووقرا في الاذن والنفس، لأنها مفرغة من معناها. كل كلمة نقرؤها  تحدث ارتعاشاً في بصرنا والماً، لأنها تتراءى لنا كالشبح والظل تذكرنا بشيء انقطع عهدنا به، وهي تحزننا كمرأى طلل هجره ساكنوه. فيجب ان نعيد الى الالفاظ معناها وقوتها، مقامها وحرمتها ان نجعل لكل لفظة موقفاًفي الحياة مقابلها. ان تجعل اللفظة مخبرة عن عمل قمنا به بعد ان كانت مذكرة بعمل عجزنا عنه، علينا الا نقول الا ما نقدر على تحقيقه، حتى يأتي يوم نقدر فيه ان نحقق كل ما نقوله.

الاسلام تجربة واستعداد دائم - ايها السادة : ان حركة الاسلام المتمثلة فى حياة الرسول الكريم ليست بالنسبة الى العرب حادثاً تاريخياً فحسب، تفسر بالزمان والمكان، وبالاسباب والنتائج، بل انها لعمقها وعنفها واتساعها ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة العرب المطلقة، اي انها صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية واتجاهها الأصيل فيصح لذلك اعتبارها ممكنة التجدد دوماً في روحها. لا في شكلها وحروفها. فالاسلام هو الهزة الحيوية التي تحرك كامن القوى في الامة العربية فتجيش بالحياة الحارة، جارفة سدود التقليد وقيود الإصطلاح. مرجعة اتصالها مرة جديدة بمعاني الكون العميقة، ويأخذها العجب والحماسة  فتنشئ تعبر عن  اعجابها وحماستها بالفاظ جديدة واعمال مجيدة، ولا تعود من نشوتها قادرة على التزام حدودها الذاتية، فتفيض على الأمم الأخرى فكراً وعملاً، وتبلغ هكذا الشمول. فالعرب عرفوا بواسطة هذه التجربة الأخلاقيةالعصيبة كيف يتمردون على واقعهم وينقسمون على انفسهم، في سبيل تجاوزها الى مرحلة يحققون بها وحدة عليا، وبلوا فيها نفوسهم ليستكشفوا ا ممكناتها ويعززوا فضائلها. وكل ما اثمر الاسلام فيما بعد من فتوح وحضارات انما كان فى حالة البذور فى السنوات العشرين  الاولى من البعثة، فقبل ان يفتح العرب الأرض فتحوا انفسهم وسبروا اغوارها وخبروا دخائلها، وقبل ان يحكموا الامم حكموا ذواتهم وسيطروا على شهواتهم وملكوا ارادتهم. ولم تكن العلوم التى انشأوها والفنون التي ابدعوها والعمران الذي رفعوه، الا تحقيقا ماديا جزئيا قاصرا لحلم قوي كلي عاشوه فى تلك السنوات بكل جوارحهم والا رجعا خافتا لصدى ذلك الصوت السماوي الذى سمعوه  وظلا باهتا لتلك الرؤى الساحرة التي  لمحوها يوم كانت الملائكة تحارب في صفوفهم، والجنة تلمع من بين سيوفهم.

هذه التجربة ليست حادثا تاريخيا يذكر للعبرة والفخر، بل هي استعداد دائم في الامة العربية - اذا فهم الاسلام على حقيقته- لكي تهب في كل وقت تسيطر فيه المادة على الروح، والمظهر على الجوهر، فتنقسم  على نفسها لتصل الى الوحدة العليا والانسجام السليم، وهى تجربة لتقوية اخلاقها كلما لانت وتعميق  نفوسها كلما طفت  على السطح، تتكرر فها ملحمة الاسلام البطولية بكل فصولها من تبشير واضطهاد وهجرة وحرب، ونصر وفشل، الى ان تختم  بالظفر النهائي للحق والإيمان.

حياة الرسول خلاصه لحياة العرب -ان حياة الرسول وهي ممثلة للنفس العربية في حقيقتها  المطلقة لا يمكن ان تعرف بالذهن، بل بالتجربة الحية لذلك لا يمكن ان تكون هذه المعرفة بدءا بل هي نتيجة. فالعرب منذ ضمور الحيوية فيهم، اي منذ مئات السنين يقرأون السيرة ويترنمون بها ولكنهم لا يفهمونها لان فهمها يتطلب درجة من غليان النفس قصوى، وحدا من عمق الشعور وصدقه لم يتوفر لهم بعد، وموقفا وجوديا  يضع الانسان امام قدره وجهاً لوجه، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك.إن أرواح أبطالنا لتجفونا وتهجرنا منذ زمن طويل، لأن البطولة لم تعد من مزايا العرب المألوفة، ويخشى أن يكون هذا التعظيم العامي للرسول الكريم معبراً عن القصور والعجز اكثر منه تقديراً للعظمة، فقد بعد عهدنا بالبطولة حتى أمسينا ننظر اليها نظرة خوف ورهبة واستغراب كأنها من عالم غير عالمنا، في حين  ان التعظيم الحقيقي للبطولة انما يصدر عن المشاركة فيها وتقديرها بعد المعاناة والتجربة، فلا يقدر البطل الا الذي يحقق ولوجزءا يسيرا من البطولة في حياته.حتى الآن كان ينظر الى حياة الرسول من الخارج  كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدسها، فعلينا ان نبدأ بالنظر اليها من الداخل، لنحياها. كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع ان يحيا حياة الرسول العربي، ولو بنسبة الحصاة الى الجبل والقطرة الى البحر. طبيعي ان يعجز اي رجل مهما بلغت عظمته ان يعمل ما عمل محمد. ولكن من الطبيعي ايضاً ان يستطيع اي رجل مهما ضاقت قدرته ان يكون مصغراً ضئيلا لمحمد، ما دام ينتمي الى الأمة التي حشدت كل قواها فأنجبت محمدا، او بالأحرى ما دام هذا الرجل فردا من أفراد الأمة التي حشد محمد كل قواه فأنجبها. في وقت مضى تلخصت في رجل واحد حياة امته كلها، واليوم يجب ان تصبح كل حياة هذه الامة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم. كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدا.

الإسلام تجدد العروبة وتكاملها- رجل من العرب بلغ رسالة سماوية فراح يدعو اليها البشر، ولم يكن البشرحوله الا عربا فاستجاب للدعوة نفر قليل  وقاومها اكثرهم، فهاجر مع المؤمنين وحاربه المشركون الى أن انتصر الحق فآمن به الجميع. فملحمة الاسلام لا تنفصل عن مسرحها الطبيعي الذي هو ارض العرب، وعن ابطالها والعاملين فيها وهم كل العرب. مشركو قريش ضروريون لتحقق الاسلام ضرورة المؤمنين له، والذين حاربوا الرسرل ساهموا في ظفر الاسلام كالذين ايدوه ونصروه. ان الله  قادر ان ينزل القرآن على نبيه في يوم واحد، ولكن ذلك اقتضى اكثر من عشرين عاما، وهو قادر ان ينصر دينه ويهدي اليه كل الناس في يوم واحد، ولكن ذلك لم يتم في اقل من عشرين عام، وهو قادر ان يظهر الاسلام قبل ظهوره بعشرات القرون وفي أية أمة من خلقه، ولكنه اظهره في وقت معين وفي حينه، واختار لذلك الأمة العربية وبطلها الرسول العربي. وفي كل ذلك حكمة، فالحقيقة الباهرة التي لاينكرها الا مكابر، هي اذن، ان اختيار العرب لتبليغ رسالة الاسلام كان بسبب مزايا وفضائل اساسية فيهم، وان اختيار العصر الذي ظهر فيه الاسلام كان لان العرب قد نضجوا وتكاملوا لقبول مثل هذه الرسالة وحملها الى البشر، وأن تأجيل ظفرالإسلام طوال تلك السنين، كان بقصد ان يصل العرب الى الحقيقة بجهدهم الخاص وبنتيجة اختبارهم لأنفسهم وللعالم  وبعد مشاق وآلام، ويأس وأمل، وفشل وظفر. اي ان يخرج الايمان وينبعث من اعماق نفوسهم، فيكون الايمان الحقيقي الممتزج مع التجربة، المتصل بصميم الحياة.

 فالاسلام اذن كان حركة عربية، وكان معناه : تجدد العروبة وتكاملها. فاللغة التي نزل بها كانت اللغة العربية، وفهمه للاشياء كان بمنظار العقل العربي، والفضائل التي عززها كانت فضائل عربية ظاهرة أو كامنة، والعيوب التي حاربها كانت عيوبا عربية سائرة  في طريق الزوال. والمسلم في ذلك الحين لم يكن سوى العربي، ولكن العربي الجديد، المتطور، المتكامل. وكما نطلق اليوم على عدد من افراد الأمة اسم "وطني" أو "قومي" مع ان المفروض ان يكون مجموع الأمة قومياً، ولكننا نخص بهذا الاسم الفئة  التي آمنت بقضية بلادها لانها استجمعت الشروط والفضائل اللازمة كيما تعي انتسابها العميق الى أمتها وتتحمل مسؤولية هذا الانتساب، كان المسلم هو العربي الذي آمن بالدين الجديد لانه استحضر الشروط والفضائل اللازمة ليفهم ان هذا الدين يمثل وثبة العروبة الى الوحدة والقوة والرقي.

إنسانية الإسلام- ولكن هل يعني هذا إن الإسلام وجد ليكون مقصوراً على العرب؟. اذا قلنا ذلك ابتعدنا عن الحق وخالفنا الواقع. فكل أمة عظيمة، عميقة الاتصال بمعاني الكون الأزلية، تنزع في أصل تكوينها الى القيم الخالدة الشاملة. والاسلام خير مفصح عن نزوع الامة العربية الى الخلود والشمول فهو اذن في واقعه عربي وفي مراميه المثالية انساني. فرسالة الاسلام انما هي خلق انسانية عربية. ان العرب ينفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصة : ان يقظتهم القومية إقترنت برسالة دينية، او بالاحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية. فلم يتوسعوا بغية التوسع ولا فتحوا البلاد وحكموا استناداً الى حاجة اقتصادية مجردة، أو ذريعة عنصرية، او شهوة للسيطرة والاستعباد.. بل ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل. أراقوا من اجله دماءهم، واقبلوا عليه خفافاً متهللين لوجه الله. وما دام الارتباط وثيقاً بين العروبة والاسلام، وما دمنا نرى في العروبة جسماً روحه الاسلام، فلا مجال اذن للخوف من ان يشتط العرب في قوميتهم. انها لن تبلغ عصبية البغي والاستعمار... وطبيعي  ان العرب لا يستطيعون اداء هذا الواجب الا اذا كانوا أمة قوية ناهضة، لان الإسلام لايمكن ان يتمثل الا في الامة العربية، وفي فضائلها واخلاقها ومواهبها. فأول واجب تفرضه انسانية الاسلام اذن هوان يكون العرب اقوياء  سادة في بلادهم. الاسلام كائن حي متميز بملامح وحدود ظاهرة بارزة، والكائن الحي المتميز الراقي في مراتب الحياة يكون هذا الشيء ولا يكون ذاك الشيء، هو يعنى هذا المعنى ويناقض ذلك المعنى ويعاديه: الاسلام عام وخالد ولكن عموميته لا تعني انه يتسع في وقت واحد لشتى المعاني والاتجاهات بل انه في كل حقبة خطيرة من حقب التاريخ وكل مرحلة حاسمة من مراحل التطور يفصح عن واحد من المعاني اللامتناهية الكامنة فيه منذ البدء، وخلوده لا يعني انه جامد لا يطرأ عليه تغير او تبدل، وتمر من فوقه الحياة دون ان تلامسه، بل انه بالرغم من تغيره المستمر، ومن استهلاكه لكثير من الاثواب، وافنائه لعديد من القشور واللباب، تبقى جذوره واحدة، وقدرتها على النماء والتوليد والابداع واحدة لا تنقص ولا تفنى، هو نسبي لزمان ومكان معينين، مطلق  المعنى والفعل  في حدود هذا الزمان وهذا المكان. فهل يدري اولئك الغيورون الذين يريدون ان يجعلوا من الاسلام جرابا يسع كل شيء، ومعملا ينتج شتى المركبات والادوية، انهم بدلاً من ان يبرهنوا على قوته ويحفظوا فكرته من كل تغير طارئ، يقضون بذلك على روحه وشخصيته ويفقدونه مميزاته الحية واستقلاله وتعيينه، وانهم من جهة اخرى يفسحون المجال لدعاة الظلم وأرباب الحكم الجائر، كي يستمدوا من الاسلام اسلحة يطعنون بها مادة الاسلام نفسه، اي الامة العربية ؟.  اذن فالمعنى الذي يفصح عنه الاسلام في هذه الحقبة التاريخية الخطيرة، وفي هذه المرحلة الحاسمة بين مراحل التطور، هو ان توجه كل الجهود الى تقوية العرب وانهاضهم وان تحصر هذه الجهود في نطاق القومية العربية.

 

مدارس تكوين المعلمين... الحقيقة والواقع(أكجوجت) كمثال

إن الحضارات والثقافات الإنسانية مكملة لبعضها البعض ولا يمكن لأمة أن تقوم ولا لدولة أن تزدهر ولا لشعب أن تكون يتطور إلا بالعلم. وإذا وصلنا لواقعنا الموريتاني ونظرنا فيه لحال التعليم لذرفنا الدم بدل الدمع ولشعرنا بكامل الحزن والأسى على تعليمنا الذي لا ريب هو مستقبل أبنائنا وبقاء كياننا. قبل أن ننظر للفرع علينا أن ننظر الأصل وما العلة والسبب الذي أدى أن ننعى التعليم في موريتانيا؟ تكوين المعلم القدوة هو اللبنة الأولى في سلم إصلاح التعليم، فإذا بذلنا الغالي والنفيس في إعداد القادة الذين يحملون على عاتقهم تربية الأجيال ونكون حينها على الطريق والنهج الصحيح. لكن للأسف الشديد الحال والواقع هو العكس قبل أيام دخل مدير مدرسة تكوين المعلمين بأكجوجت على من يديرهم ولم يروه قبلها فلربما هو الظهور الأول له أمامهم، لقد كانت نظرات الاحتقار والازدراء تبدوا جلية من عينيه،تلك الحركة الاستفزازية التي دخل بها على مربي الأجيال ما زالت تسكن ذاكرتي، انه يضع أصبعه على فمه ان اصمتوا، التعجرف والغرور يسكنان قلبه. لا خطاب ولا نقاش مع أحد، ليس لأحد أن يسأل أو يستفسر. أريد هنا أن أتساءل عن هذا المدير الذي لم يحضر قط لمؤسسة هو المسؤول عنها وان حضر مرة تمنينا أن لم يحضر. هل مثل من يكونون في هذه الظروف من عدم الاحترام واللامبالاة هم قادة الجيل الجديد وآباؤه الروحيون؟ اشك في ذلك.. وجود هذا النوع من الأشخاص في المؤسسات التعليمية التربوية هي الكارثة التي أفقدت المعلم في التعليم واللعنة التي جعلت مستوى المعلم يتدنى من سافل إلى أسفل وأصبح همه فقط ذلك المرتب الشهري الذي لا يسمن ولا يغني من جوع إلا أنه يظل أفضل من عيش حياة البطالة. قبل عامين أعلنتها الحكومة سنة للتعليم فكانت الكارثة في نتائج الباكالوريا فطووا تلك الصفحة. إن إعادة الهيكلة في مؤسساتنا التربوية أمر ضروري والأهم من ذلك اختيار الكفاءات التي لها القدرة على صنع المعلم الحقيقي اقصد المعلم القدوة. ما أريد الوصول إليه أن التعليم لان يحتضر فإن لم نبادره بتصحيح مساره وتعديل أوضاعه فعلينا وعلى أجيالنا القادمة السلام.

 

3 من