إذا كان في أغوارالإنسان ثغرة لا تسدها إلا الحرية ، فإن على المرء أن يقف في وجه من يصادر شرط نشوء غيره ، ويطالبه نكاية باختزال مراحل التطور التى أخذت من الأمم المتقدمة قرونا عجافا ، ذلك أن الانتماء العميق لأي بلد أو أمة لا يكون متجذرا إلا ذا ارتكز إلى إيمان ثابت ، وجهد مشهود ، وإلا كان تخلفا وجحودا، لا يليق الركون إليهما .
لإن بناء منظومة الإنتاج الحضاري ، يستدعي من كافة الوطنيين ـ أحرى في أوقات الاستلاب الفكري ـ أن يحافظوا على مكتسبات الاستقلال ، ويساهموا في البناء ، ويتطلعوا إلى ماهو أبعد من عرض الصفحات المطوية من الثقافة الناصعة والتاريخ المشرق ، مع أن الأمة الحية هي التي تكتب تاريخها وتمحصه حتى في شقه الآخر، ذلك أن المعارك التي تخسرها أي أمة تتحول إلى تجارب وتمارين أثناء المنازلات الحاسمة .
غير أن استنطاق صفحات المقاومة لكي يكون أمينا ومعبرا عن وجدانها يستدعي التعرف على كافة أساليبها وأنواعها المتعددة ، مثل المقاومة المسلحة ، والمقاومة ثقافية ، ومقاطعة المستعمر في شتى المجالات .
وفي هذا المشهد فإن المقاومة الموريتانية لم تكن في تطلعاتها وأساليبها قطرية ولامناطقية ، فقد ترفعت عن هذه النظرة الضيقة ، وذلك نتيجة لإيمانها بالانتماءالقومي والحضاري لأمتها العربية والإسلامية ، وقد ساعدها على ولوج محيطها العربي أنذك عدم وجود حدود سياسية لموريتانيا مع جيرانها العرب ،الذين تفاعلوا مع هذه المقاومة وغذوها بالسلاح والرجال ، وفي هذا الصدد يقول الخليل النحوي في كتابه المنارة والرباط : (وقد هب المواطنون من جميع المناطق لمواجهة الاستعمار..وتنادت قبائل البلاد فقررت إرسال ركب إلى الشيخ ماء العينين بمقره في اسمارة(بالصحراء) ومنه إلى سلطان المغرب لطلب النجدة بالعتاد وعدة الحرب ..فأعطاهم السلطان عبد العزيز كمية من العتاد وبعث معهم ابن عمه مولاي الحسن ابن مولاي ادريس الذي شارك في معركة انيملان المظفرة وفي حصار تجكجة ).
وخلال هذه الفترة الحرجة وقفت المحاظر سدا منيعا في وجه الاستعمارالفرنسي البغيض ، وأصبحت مراكزخاصة للمقاومة بشتى الوسائل الثقافية والعسكرية والسياسية ضد المشروع الاستعماري الفرنسي ، لذلك حاول الغزاة القضاء على المحظرة، لما لها من دور في تأصيل الشخصية الموريتانية ، وفي هذا الصدد كتب الحاكم الفرنسي العام في غربي افريقيا في تقرير إلى وزير المستعمرات عن صعوبة هذه المهمة ، حيث يقول: "..وجدنا شعبا له ماض من الامجاد والفتوحات لم يغب عن ذاكرته بعد ومؤسسات اجتماعية لا نستطيع أن نتجاهلها " ، ومع ذلك ضاعفت فرنسا جهودها من أجل إحلال لغتها و ثقافتها بدلا من اللغة العربية، لقطع موريتانيا عن محيطها العربي متجاهلة بذلك عدم إمكانية الفصل مطلقا بين الإنسان ولغته الأم ،خصوصا أن الكلمات الوافدة لا تتيح قول كل شيء ، خلافا للغة الأصلية فإنها تظل مشحونة بمجموع ما لا يمكـن قولـه، وهـو مجمـوع مقترن بها ، فالقوالب اللغوية التي توضع فيها الأفكار والصور الكلامية التي تصاغ فيها المشاعر والعواطف لا تنفصل مطلقا عن مضمونها الفكري والعاطفي .
وهذا ماعبرعنه بوضوح الفيلسوف الألماني (هيدجر) بقوله : " إن لغتي هي مسكني، هي موطني ومستقري، هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع".
ومع ذلك فان المقاومة الموريتانية بفضل أساليبها المتعددة قد كسبت الرهان وطردت المستعمرمن البلاد سنة 1960، في ذلك العام المبارك الذي تميز باستقلال 16 دولة إفريقية من قبضة الاحتلال الفرنسي البغيض.
وبما أن هذه المناسبة من أكثر االقضايا إثارة للعاطفة، حيث تشير إلى انتقال السلطة من الأجانب إلى أبناء البلاد التي كانت تحتلها القوى الإستعمارية ،فإن على الشعب الموريتاني أن يحتفي هذه الأيام بذكرى عيد الإستقلال الوطني أصالة عن نفسه ونيابة عن الأقطار الإفريقية المستقلة في نفس السنة ، خصوصا أن القادة الأفارقة والعرب قرروا فى اجتماع "ملابو" الأربعاء 23-11-2016 اختيار الرئيس الموريتانى الحالي رئيسا للعمل العربى الإفريقي لمدة ثلاث سنوات .
وإذا تأكد أن من يبالغ في الخصوصيات والذاتيات يكرس آثارا رجعية ، فإن النخب التي انخرطت في التعاطي مع الإطارالقطري الضيق الذي ارتضاه الاستعمار أصلا، تكون قد رضيت هي الأخرى بوضع البلاد في الإطارالمنعزل ، وهو ما لا ينسجم مع ما كانت تصبو إليه المقاومة الموريتانية التي مدت الجسور مع محيطها العربي ، خصوصا أن شعار الوحدة التي تتخطى الذاتيات صار في كثير من الحالات ممارسة تقدمية فعلية ، وأن بعض المقاومين العروبيين والكونيين تجاوزوا المحلية جراء فكرهم ونضالهم وأمانة انتمائهم الى الشعب .
وانطلاقا مما سبق ذكره وعلى ضوء تلك التأملات البسيطة وعملا بمبدإ " خذ وطالب " فإن بلادنا التي (تحررت من الاستعمارالفرنسي ) ، ينبغي لها أن تنشد الاستقلال التام وتحتفي به مستقبلا إذا تحررت المقدسات الإسلامية كالمسجد الأقصى ، والأراضي الطاهرة الأخرى ، وتحررت كذلك العواصم العربية في اليمن والعراق والشام .
لا يسلم ابن حرة زميله حتى يموت أو يرى سبيله .