مع كل عطلة صيف أو بعد اختتام تظاهرة دولية تنعقد على أديم البلد أو زيارة رئاسية لعمق التراب تَعُودُ أو تَستفحلُ بحدة ظاهرةُ التسيب الإداري. فقلما يمكث مسؤول أو معاونوه في مكاتبهم أوقات الدوام الرسمي يزاولون أعمالهم بإخلاص و يؤدون بأمانة واجباتهم و يراقبون بوطنية الأداء العام. و إنهم فقط بعض العمال من الوكلاء في دائرة الفراشين و الحراس و السكرتيريا هم من يبقون في الأداء بالحضور حراسا لـ"الفراغ" حتى نهاية الوقت الرسمي.
و هي الطاهرة التي لا تخطئها عين القاصد خدمة لدى مصالح و إدارات القطاعات و والمؤسسات العمومية؛ ظاهرة تلبس كل زخمها في إدارات البلد التي تغص بشكل غير اعتيادي بالموظفين في أعداد لا حصر لها تلاحقت حتى باتت تشكلت تراكما لا ينقطع على إثر التعيينات التي لا تستجيب لطلب موضوعي و منطقي أو تلبي حاجات و ضرورات محددة أو تقدم خدمات ترفع من مستوى الأداء و تسفر عن مخرجات عملية بناءة؛ ظاهرة معيقة لمسار الدول تؤذي بكل تناقضاتها و تتجلى بكل أبعادها في المسلكيات السلبية الشائعة و الممارسات الكابحة التالية:
· الغياب المتكرر للمسؤولين و أعوانهم و اختلاق الاعذار التي تساعد على عدم الذهاب إلى العمل لتأدية الواجب و أداء الخدمة،
· تسجيل الحضور و الانصراف بمساعدة نظراء لا يؤدون العمل بدلا عنهم،
· التأخير في الحضور إلى العمل و عدم الالتزام بالأداء الصحيح، و الخروج مبكرا دون إنجاز أي من المهام المنوط به تحقيقها،
· قضاء الوقت في الحديث بالتلفون أو اللهو بالانترنيت و أشياء غير مفيدة أو مهمة،
· الاستئذان المتكرر بحجة الظروف الخاصة.
و التسيب الإداري من الظواهر الخطيرة التي تصيب البلد و المجتمع بمقاتل كثيرة إذ هو الذي يؤدي إلى التقليص من الإنتاج و الحد من الإنتاجيّة في المؤسسات العموميّة و يساهم بشكل كبير في ركود أو شل الحركة التنموية على كافة الأصعدة، و يذهب بعيدا مع سلبياته و استفحال تراكمات فشل بيروقراطيته إلى حد غلاء المعيشة و ارتفاع الأسعار و انتشار مظاهر الفقر و ضعف الحراك المعيشي عموما و عدم الاستقرار و انتشار البطالة و عدم الاستقرار.
كما أن الفساد الإداري هو إحدى الظواهر التي لم تنج منها يوما، بفعل العدوى، حتى المؤسسات الخاصة الكبيرة و منها المصارف الكثيرة ذات الارتباط الوثيق بالمصالح الإدارية و التسييرية المالية مما ينجم عنه تداخل المهام على غير هدى أو تحديد أو فصل بين المسؤوليات في ظل ضعف المتابعة والمراقبة والمحاسبة الإداريّة الواجبة أصلا على جميع مستويات الهياكل الإداريّة المشرفة، وعلما بأن التسيّب الإداري في وجهه الأكثر بروزا هو عدم الخوف علي المنظومة العملية و وترك كل عضو فيها يفعل ما يريد بدون قواعد أو شروط معينة أو الاتزام بضوابط و مساطر العمل و القانون، و أن يغيب متى شاء و يقدم من مخرجات العمل المكلف ما يريد وقت ما بدا له ذلك للإيهام بالإنتاجية و المسؤولية و لضمان حصول الترقية.
و لما أن التسيب الإداري يمر عند الجميع في هذه البلاد بصمت رهسب كأنه أمر طبيعي أو قدر محتوم من دون الاكتراث بنتائجه السلبية الفظيعة على مسار البلد البطيئ و عدالته الاجتماعية الواهية و تخلفه المزمن، فإن الاهتمام بالأمر أضحى ملحا على نحو جديد في دائرة الضرورات القصوى و الأولويات الكبرى، و أن البحث عن وسائل رادعة مبتكرة لمحاربة المسلكيات التي تؤدي إليه و تغطيه بات مستعجلا في ظل ضعف وتيرة الاداء الإداري و بعده عن المهنية وتزايد تراكم عدد الأشخاص المكتتبين من دون مردودية أو أداء.
و يجب أن تتجلى أولى مظاهر هذه المعالجة الملحة في محاربة رواسب عقلية الفوضى و الاعتبارات المجتمعية الموغلة في القدم التي تكرس الانتهازية و الكسل و الفساد و الغبن و الاقصاء و الأنانية في ظل تراتبية نظم اجتماعية ما كانت إلا لترحل، إلى غير رجعة مع بزوغ شمس الدولة المركزية، لولا تشبث المستفيدين منها بعراها الضاربة في عمق رواسب القبلية السلبية، و الارستقراطية الظالمة، و الجهوية المزمنة، و التراتبية البغيضة و العنصرية الصامتة.
أو ليس من المضحك المبكي أن ينعت كل قطاع أو مؤسسة أو إدارة عمومية باسم قبيلة أو جهة لتحكم أفرادها - مرحليا أحيانا و دائما للبعض ـ في مفاصلها و التصرف في ميزانياتها و كأنها ميراث الآباء عن الأجداد؟
و حتى و إن استنكر البعض ذلك أو خفف من حصوله فإن واقع المشاهدة و الاطلاع كفيل بأن يكشف عند الاهتمام بالأمر أن قسمة تسيير البلد منذ استقلاله غير عادل و أن ميراثا ثقيلا من حكم عقلية "السيبة" مازال يملي و يفرض نفسه على واقع الحال و أن الكل في ذلك مشارك و مبارك إن عن قوة بالنسبة للبعض و إن عن ضعف بالنسبة للمغلوبين أبدا على أمرهم.