لقد أصبح من الواضح جدا بأن خطاب النعمة قد تسبب للسلطة القائمة في أضرار كثيرة، ومن هنا جاءت فكرة شرح مضامين الخطاب، والتي تحولت في نهاية المطاف إلى مناسبة لكيل المزيد من الشتائم للمعارضة من طرف شراح الخطاب، وكأن الرئيس كان قد قصر في خطابه بالنعمة في شتم وسب المعارضة .
إن الأضرار التي تسبب فيها خطاب النعمة تنقسم إلى نوعين :
النوع الأول : يمثل مجموعة من الأضرار التي يمكن للسلطة أن تخفف من آثارها من خلال القيام بإجراءات معينة، وفي هذا الإطار يتنزل :
ـ إصدار أول حكم قضائي يقر حالة عبودية، يوم الاثنين (16 مايو) في مدينة النعمة، ومن المفارقات هنا بأن هذا الحكم قد صدر في مدينة النعمة التي كان الرئيس قد أكد فيها من قبل أسبوعين فقط على إصدار ذلك الحكم بأن العبودية لم تعد موجودة في موريتانيا..
ـ إطلاق سراح زعيم إيرا ونائبه يوم الثلاثاء (17 مايو).اللافت في الأمر، وهذه قد تكون مفارقة يصعب تفسيرها هو أن السلطة قد قررت أن تسجن الرئيس بيرام يوما واحدا بعد أن ألقى الخطاب الأكثر اعتدالا في تاريخ حركة إيرا، وأطلقت سراحه بعد يومين من إرسال رسالة شديدة اللهجة من زنزانته استعاد فيها حدة خطابه القديم.
النوع الثاني : هناك أضرار لابد لها من تدخل "خارجي" للتخفيف من آثارها السلبية، ولعل المثال الأبرز على هذا النوع من الأضرار هو ذلك التعهد المرتجل الذي التزم به الرئيس علنا في خطاب النعمه، والذي وعد فيها ـ وبشكل قاطع ـ بتنظيم حوار بمن حضر في فترة لا تتجاوز ثلاثة إلى أربعة أسابيع ( العداد يبدأ من ضحى يوم 3 مايو من العام 2016).
إن هذا التعهد يعني، ومن الناحية الحسابية، بأن الحوار سينطلق في يوم 24 مايو أو في يوم 1 يونيو على أبعد تقدير، فهل من الممكن تنظيم الحوار في مثل هذا الموعد؟ يزداد هذا السؤال وجاهة عندما نتذكر بأن اليوم هو يوم الأربعاء الموافق 18 مايو.
لقد أصبح من الواضح جدا بأن الرئيس قد أوقع نفسه في ورطة كبيرة عندما أعلن في لحظة انفعال وارتباك بأنه عاقد العزم على تنظيم حوار في فترة لن تتجاوز أربعة أسابيع.
إن هذا التعهد المرتجل كغيره من "مرتجلات" الرئيس قد وضع الرئيس وموالاته أمام ثلاثة خيارات في غاية الصعوبة:
الخيار الأول: أن تنظم السلطة حوارا في الموعد المحدد، وبغياب المعارضة باستثناء عنوان حزبي يحسب على المنتدى، أو بعض الشخصيات المنشقة من هنا أو هناك، هذا بالإضافة إلى كتلة المعاهدة. إن تنظيم حوار من هذا النوع سيحول السلطة إلى مادة للتندر، فمثل هذا الحوار لن يرقى إلى مهزلة السابع من سبتمبر، وإذا كانت مهزلة السابع من سبتمبر قد أوقعت السلطة في ورطة كبيرة، فذلك يعني بأن أي مهزلة أخرى أقل شأنا من مهزلة السابع من سبتمبر ستوقع السلطة في ورطة أكبر.
الخيار الثاني : أن تحاول السلطة أن تبدل المعارضة السياسية بالحركات والشخصيات المتطرفة، أي أن تنظم حوارا تشارك فيه حركة "أفلام" ( وقد أعلن زعميها عن استعداده لذلك)، ويشارك فيها داوود وجماعته، هذا بالإضافة إلى حركة إيرا والتي أفرج عن زعيمها ونائبه يوم أمس، وربما يوحي تزامن الإفراج مع قرب موعد الحوار بأن هناك "شيئا ما" في هذا الإطار قد تم الاتفاق عليه بين السلطة وحركة إيرا.
الراجح بأن حركة إيرا لن تشارك في الحوار القادم، ولقد أعلن زعيمها بعد خروجه من السجن بأنه لن يشارك في الحوار المنتظر. وبعدم مشاركة إيرا في هذا الحوار فلن يكتب للخطة الرامية لإبدال الأحزاب السياسية بالحركات المتطرفة أي نجاح، ف"أفلام" و "نو" لا يستطيعان لوحدهما القيام بمهمة التعويض. حتى ولو افترضنا جدلا بأن حركة إيرا ستشارك في مثل هذا الحوار، فإن انعكاسات ذلك الحوار ستعود سلبا على الحركة وعلى زعيمها الذي يوجد اليوم في مفترق طرق. كما أنها ستعود سلبا على السلطة نفسها، والتي ستظهر على حقيقتها إن هي تجرأت على إطلاق حوار من هذا النوع، وهو الحوار الذي سيظهر السلطة على أنها هي من يعمق العنصرية ويغذي الخطابات المتطرفة في هذه البلاد.
الخيار الثالث : أن تؤجل السلطة موعد انطلاق الحوار المنتظر، وهنا سنكون أمام وعد جديد للرئيس تم عدم الوفاء به كغيره من اللائحة الطويلة من المواعيد المخلفة.
الراجح أن هذا الخيار الأخير هو الذي سيتم اعتماده، وسيكون ذلك وفق مسرحية سخيفة، ومن مشهدين اثنين:
المشهد الأول : ستتقدم بعض الأطراف الموالية التي ترفع لواء المعارضة (المعاهدة مثلا) بتقديم طلب إلى الرئيس محمد ولد عبد العزيز بضرورة تأجيل موعد الحوار، من أجل إتاحة الفرصة لمزيد التحضير والتشاور حتى يشارك أكبر قدر ممكن من الأحزاب المعارضة في الحوار المنتظر .
المشهد الثاني: سيعلن الرئيس عن استجابته لذلك الطلب الذي جاء من أطراف"معارضة"، وسيتظاهر بأنه قد قبل ذلك على مضض، وبأنه قبوله لذلك التأجيل كان نابعا من حرصه على الوفاق و الإجماع، وعلى مشاركة الجميع في الحوار المنتظر.
إنه من الصعب جدا أن نقتنع بأن الرئيس يحرص على الوفاق، وعلى مشاركة الجميع بعد أن سمعنا خطابه في النعمة. كما أنه سيكون من الصعب جدا علينا أن نقتنع بأن مزاج الرئيس الحاد ورؤيته (وهذه الكلمة قد كررها الرئيس كثيرا في خطابه) قد تغيرا بشكل جذري في فترة لا تتجاوز الثلاثة أو أربعة أسابيع.
حفظ الله موريتانيا..