أكدت الندوة التي نظمها بيت الشعر في نواكشوط ليلة أول أمس تحت عنوان " إسهام مؤسسة المحظرة في النهوض باللغة العربية في الربوع الشنقيطية"، أن المحظرة الموريتانية مكنت الموريتانيين عبر القرون من الحفاظ على اللغة العربية ونشر الدين الإسلامي في المنطقة.
وقدمت في الندوة التي جرت وسط حضور كبير للنخبة، وأدارها الدكتور محمد محمود ولد محمد الأمين، محاضرتان.
بدأت أولاهما مع الدكتور محمدو محمدن أميّن أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعـة نواكشوط، حيث بدا بتقديم ملاحظات حول المؤسسات المحضرية والدور الحاسم الذي اضطلعت به في مجال التمسك باللغة العربية وحمايتها والدفاع عنها ونشرها داخل المجال الشنقيطي وخارجه.
وقال "بما أن هذا الجزء من تاريخنا الثقافي لم يحظ لحد الساعة بما يستحقه من دراسة وتمحيص، فإننا سنخصص حيزا من هذه المحاضرة للحديث عن المؤسسة المحضرية من حيث التصنيف والنشأة والتطور والسمات العامة قبل تناول الأدوار التي اضطلعت وتضطلع بها وفي مقدمتها نشر اللغة العربية والدين الإسلامي والدفاع عنهما".
وأضاف "إن مؤسسة المحضرة من خلال نشرها للغة العربية والدين الإسلامي في هذه الأصقاع قد أسهمت إسهاما كبيرا في صيانة التراث الثقافي والحضاري العربي والإسلامي للأمة وخلدت اسم هذه البلاد بأعلام كان لهم حضور متميز على مستوى الوطن العربي والعالم الإسلامي، ومكنت بالاعتماد على إمكانيات محدودة من الصمود في وجه التغريب والمسخ الثقافي وساعدت في التشبث بخصوصيات الأمة، حيث يذكر الباحث الفرنسي فرانسيس دو شاسي (Francis de Chassey) "أن حماسا دينيا عارما صاحب الاستعمار، إذ ازداد البيضان خلال الفترة الاستعمارية تمسكا بالإسلام وتطبيقا لشعائره، فانتشر التدين بين مختلف المراتب والفئات الاجتماعية". ولم يقتصر هذا الحماس للدين الإسلامي والتمسك باللغة العربية على البيضان (الموريتانيين العرب)، بل إنه شمل أيضا علماء وطلاب محاضر القوميات الأخرى. فلنتذكر أسماء بارزة في هذا السياق من أمثال المرحوم الحاج محمود باه مؤسس مدارس الفلاح الشهيرة.
وتتمتع المحاضر بمصداقية كبيرة لدى جميع الأوساط الموريتانية مما يجعلها اليوم من أهم الأطر المؤسسية القادرة على بث المعارف كما كانت بالأمس. وقد شهد شاهد من أهلها ذات يوم حينما اعترف الفرنسي آندرى لكورتوا (André Lecourtois) "أنه بفضل المدارس البدوية [المحاضر] ونظامها التعليمي كانت نسبة الأميين منخفضة في موريتانيا بخلاف بلدان إفريقية وآسيوية عديدة".
وخلص إلى القول إن "المهمة نفسها اليوم تقتضيها تحديات العولمة الثقافية ودعوات التعصب وإلغاء الآخر التي ترتفع من وقت لآخر مبشرة بنهاية التاريخ لصالح صيغة واحدة مهيمنة حينا، وبتصادم الحضارات البشرية حينا آخر، وما انجر عنها من التباس الحق بالباطل وانتشار تيارات الغلو والتكفير والتطرف ومحاولات إلصاق مختلف التهم والنعوت السلبية بالدين الإسلامي الحنيف واللغة العربية الجميلة".
أما المحاضرة الثانية فقد ألقاها الأستاذ الدكتور محمد محمود ولد صدفه استاذ الأدب بكلية الآدابا بجامعة نواكشوط، وأكد فيها أن "للشناقطة الحق في أن يفتخروا بالمحضرة تلك الجامعة المتنقلة التي ازدهرت في أحضانها العلوم العربية الإسلامية، واستطاعت أن تمد إشعاع حضارة الإسلام إلى أدغال القارة الإفريقية بالتي هي أحسن، وكما يقول العالم الكبير المختار بن بونه:
ونحن ركب من الأشراف منتظم أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
ننمى لحمير والأقوام شـــــــــاهدة أسلافُنا الغر من آل قحــــــطانا
قد اتخذنا ظهور العيس مـــــدرسة بــــها نبين دين الله تبيــــــــــانا
وقال "كما مكنت إنسان هذا الركن القصي من مقاومة الحملات التغريبية التي مارسها الاستعمار، بعدما تغلب عسكريا، فكانت القيم والثقافة سدا قويا عجز الساسة الاستعماريون، باعترافاتهم، عن اختراقه.
وتحتم علينا مساحة الزمن المتاح أن نختزل الحديث عن هذا الموضوع، منطلقين من إمكان مقاربته عبر مدخلين اثنين:
أولهما: شروح الشناقطة على الشعر، فقد كانت دواوين الشعر وشروحها من المقررات الثابتة في كثير من المحاضر الشنقيطية، وكانت على رأس قائمة الدروس في بعضها. ولم يكتف شيوخ المحاضر بشروح الشعر الوافدة؛ بل بادروا إلى وضع شروحهم الخاصة بهم في حركة شرح نشيطة، تتطلب من التمكن في اللغة والثقافة الشعرية ما أرادوا أن تكون تلك الشروح برهانا عليه.
ثانيهما: تأثير المحضرة وإشعاعها خارج البلاد، بفضل نشاط "سفراء المحضرة" في الحجاز ومصر على وجه الخصوص.وما دام الأمر هنا متعلقا باللغة والشعر فلا بد من الانحناء أمام قامتين شاهرتين، أمام ابن التلاميذ وابن الأمين:
فابن التلاميذ محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي ( -1245 هـ 1322هـ/1829 – 1904م) العالم اللغوي الشاعر الفقيه الذي ذاع صيته في المشرق والمغرب، حتى اختاره السلطان عبد الحميد الثاني للقيام برحلة علمية إلى إسبانيا لشراء المخطوطات العربية، ولما استقر بمصر انتدبه عالمها الجليل محمد عبده للتدريس بالأزهر الشريف، وقد ذكره طه حسين، في كتابه"الأيام" ضمن حديثه عن أساتذة الأزهر، باسم "الشيخ الشنقيطي".
وكان له الفضل في تأليف كتب كثيرة وشرح أو تصحيح طائفة من أمهات كتب العربية، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- المفصل في النحو لابن يعيش
- الخصائص لابن جني.
- المعلقات السبع مع ذكر رواياتها وأنساب قائليها.
- أساس البلاغة للزمخشري.
- القاموس المحيط للفيروزابادي.
- المخصص لابن سيدة.
- الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني
وأما أحمد بن الأمين الشنقيطي ( 1289هـ ـــ 1331هـ / 1872ـــ 1913م) الذي نشأ وتلقى العلم في رحاب المحاضر، وسافر سنة 1315هـ ـــ 1897م، لأداء فريضة الحج، ثم حداه الطموح والشغب بالعلم إلى الالتقاء بعلماء مكة المكرمة والمدينة المنورة، فأخذ عنهم واستفاد منهم، وأفادهم، ثم شد رحال البحث عن العلم إلى المواطن الإسلامية في بلاد الروس، ثم إلى تركيا فعاين معاهدها العلمية ومكتباتها الزاخرة بنفائس الكتب والمخطوطات، ثم قصد سوريا حيث اجتمع بأفاضلها وعلمائها وأدبائها، ومنها إلى القاهرة التي استقر بها بقية حياته، ونشر منها روائع كتبه، ولقي فيها احتضان أهل العلم والأدب، فألف، وشرح وحقق، ما أثرى المكتبة العربية؛ ومن ذلك على سبيل المثال"
- الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع
- شرح المعلقات العشر وأخبار قائليها.
- الوسيط في تراجم أدباء شنقيط.
- تحقيق ديوان طرفة بن العبد.
- تحقيق أمالي الزجاجي.
- تحقيق ديوان الشماخ بن ضرار.
- تحقيق كتاب ليس في كلام العرب لابن خالوية
تحقيق تحفة المودود في المقصور والممدود، لابن مالك.
ومن المعلوم أن الرجلين لم تجمعهما اللغة والشعر إلا ليتفرقا بسببهما على طلاق بائن. فقد كان ابن التلاميد رأى رأيا في عمر وما على شاكلته من أسماء الأعلام المعدولة، فذهب إلى أنها منصرفة، لخلوها في رأيه مما سوى العدل، وهو لا يستقل وحده بالمنع. وألف في ذلك رسالة، وقد نهض ابن الأمين، كما هو معروف، لمعارضة ابن التلاميذ في هذا الرأي، وصنف في توهينه وإبطاله رسالة بعنوان: "الدرر في منع عمر".
ولهذه القصة مغزى ودلالة جلية فيما نحن بصدده، ذلك بأن ابن التلاميذ يرى مذهبه في هذه المسألة كشفا لخبيئة علمية لم ينتبه إليها أحد قبله، من كافة علماء اللغة العربية منذ سيبويه فمن بعده إلى شيخه اجدود بن أكتوشني، ولم تخطر لأي منهم على بال. وخلد ذلك مفاخرا به في كبرى قصائد شعره، وزاد فأفرد له منظومتين من مزدوج الرجز رد فيهما على منتقديه.
ولم يجد من يرد عليه، وهما مقيمان في مصر، سوى عالم آخر أرضعته المحضرة لبانها.
وهكذا فعن طريق شروح المتون الشعرية، وتدريسها، إلى جانب علوم اللغة العربية الأخرى، تمكنت المحضرة من تخريج أجيال من الشعراء والكتاب ذاع صيتهم داخل البلاد وخارجها في الفترة الزمنية التي وصفها مؤرخو الثقافة العربية الإسلامية بعصر الانحطاط، فكانت هذه الربوع استثناء فريدا يتناشد الناس فيها أشعار الجاهليين والإسلاميين ويحاكونها، ويشرحونها؛ مما جعلهم يوصفون ببلاد "المليون شاعر" وجعل الحواضر العربية في المغرب والحجاز ومصر والأستانه تحتفي بهم وتكرم وفادتهم وتحتضنهم، وتختارهم للتدريس والإفتاء وتحقيق مختلف العلوم العربية الإسلامية".