أية مدنية حديثة يمكن أن تتأكد و تنهض و تستقيم من دون الطاقة الكهربائيّة ؟ لا جدال في أنها غير موجودة لأن الطاقة أصبحت الأصل في القيام و النهوض حيثتعتبر المحرك الرئيسي للحياة منذ أمد و بصفة أكثر تأكدا في الوقت الحالي؛ فإن كافّة تفاصيلها اليومية أصبحت تعتمد على هذه الطاقة الهامة وبشكل غير مسبوق من أجل تشغيلها حيث برزت من هنا و تأكدت كل أهميتها.
و بالطبع فإنه أصبح للطاقة الكهربائيّة في حياة الموريتاني، الحديث عهد بالبداوة و الشديد الارتباط بالتخلف أهميّة كبيرة جداً رغم تأخر البلد الشديد، تتلخّص في كونها المحرك الرئيسي لكل ما أصبح يتفاعل معه بشكلٍ يومي و إذ لم يعد قادرا أبداً على الاستغناء عنها نظراً لدخولها في العديد من الأمور الهامّة و المجالات الحسّاسة التي من أبرزها و لا تستغني عن الكهرباء في:
· المجال المنزلي الذي لم يعد في ظلّ تحكم و انتشار التقنيات الحديثة أن يستغني عن الطاقة الكهربائية علما أن أغلب الأجهزة الهامة في البيت أصبحت كهربائية،
· مجال إنارة الشوارع من أجل توفر و ضمان الأمن و نشر الزينة، و الاتصالات بكل أوجهها، و حراك القطاع التجاري و العطاء التعليمي الهندسي و الفني و المهني،
· المجال الصحي علما بأن كافّة الأجهزة الطبية اليوم تعتمد عليها، الأمر الذي يدفع بالمستشفيات إلى اقتناء المولّدات الكهربائية القادرة على توليد الطاقة الكهربائية في الحالات الطارئة التي تنقطع فيها،
· المجال الصناعي على شبه غيابه المجلجل و ينتظر سياسة واعية تدفع إليه و تأهيل الطاقة الكهربائية التي هي محرك آلات مصانعه و خاصة في ظل الاندثار بوتيرة سريعة لأنواع كثيرة من الصناعة التقليدية القائمة على العمل اليدوي،
و هي الأوجه الّتي ضاعفت من أهمية الكهرباء بل و محورية وجودها أفقيا و عموديا في عملية البناء الشامل و كذلك الأمر الذي دفع الدول الكبيرة في العالم باحتياجها الكبير إلى الطاقة في مجملها إلى السعي الحثيث باتجاه استخراج النفط و الغاز و تطوير صناعة مشتقاته و في مقدمها "المحروقات" و عدم التردد في خوض النزاعات العنيفة من أجل الاستحواذ على مصادرها و قد أصبحت اليوم المحرّك الأساسي في العالم كله حيث لم يعد ممكنا للدول الاستغناء عنها في تطورها إلى الآن،على الأقل.
لكل هذه الأسباب فإن الدول المتقدمة و النامية لا تتهاون اليوم في تدابيرها السياسية الهادفة إلى ضمان الحصول على أسباب الطاقة الكهربائية من مصادرها و تقنياتها إلى توفيرها و العمل الدءوب على اقتناء و تطوير كل أوجهها من التقليدية المتولدة بواسطة المحروقات و الفحم و الغاز، إلى الحرارية و النووية مرورا بالطاقات المتجددة من رياح و شمس إلى العضوية من مشتقات و مفرزات البيئة النباتية و الحيوانية إلى المستقبلية من أمواج البحر و الحرارة المنبعثة من جراء مرور السيارات على المعبدة و الإسفلت و سكك الحديد و المغناطيس. و قد أضحى حقل الكهرباء أيضا مسرحا من مسارح التنافس و ركنا مكينا من أركان سيادة البلدان و ضمان تطورها و نموها و نفوذها.
و لم تكن موريتانيا ببعيدة عن فهم هذا الأمر، فقد أدركت منذ فترة حجم القدرات الهائلة للطاقة التي تمتلكها من رياح و شمس و نصيب يفوق حاجياتها من الكهرومائية على النهر، لكن السياسة الرشيدة إلى ذلك، و الاستفادة من مخزونات هذه المصادر الهائلة و المتوفرة بكثرة، ما زالت متعثرة و تناقض نفسها، كما أن نصيب المواطن منها كما و في استمرارية الدفق إليه ما زالت مثار امتعاض و حيرة.
ففي حين يتكررُ على مسامع المواطن من خلال التصريحات الكثيرة توفرُ البلد على مصادر متنوعة من الطاقة و قدرته على تصدير فائض يزيد أضعافا عن الحاجة الشاملة للدولة، فإنه يستغرب كونه يعيش مع ذلك وسط حالة مزمنة من انقطاع التيار الكهربائي مزعجة نفسيا و مؤثرة سلبيا على وضعه المعيشي و على حالة البلد الاقتصادية الضعيفة أصلا و المتميزة باحتكار قلة قليلة من التجار و رجال الأعمال لزمام أمورها من دون رؤية ثاقبة أو تصور حديث يفضي إلى خلق صناعة وطنية تغني من الإيراد و تفضي إلى التصدير.
و بالطبع فإن هذه الحالة الشديدة التناقض هي التي تدفع المواطن أيضا إلى الحيرة البالغة ثم إلى السؤال الملح عن حقيقة الوجهين و عما إذا كان الأمر متعلقا بضعف سياسة شأن الطاقة و تدابير تطبيقاتها و غياب الرؤية العلمية و ضعف الإستراتيجية القائمة و غياب الأهلية لتفعيل حيثياتها و برامجها، أم أنه يتعلق بسوء التسيير المزمن المفضي إلى حالة من الفساد المعشعش منذ كانت في قطاعها، إدارات و مصالح و محطات و و مستودعات و ورش، حائلا و مانعا عن وضوح الرؤية التسييرية و عائقا في وجه الأداء الفني و الخدمي المطلوب؟
إنه السؤال الوارد بإلحاح في ظل سياسة شفافية التسيير التي رسمتها البلاد مؤخرا و أعلنت نية تطبيقها من خلال ترسانة من القوانين الصارمة الجديدة قصد محاربة الفساد و الرشوة و الضرب على أيدي المفسدين و المرتشين بالمساءلة و المحاكمة و العقاب سجنا و غرامة.