لما بطش العفاريت بالوزير الأول، ووزير المالية والاقتصاد، ووزيرة البيطرة، اعتبروا أن الثلاثي الذي رخص تصدير لحم الحمير قد أُبعد من السلطة وأصبح الحاكم في عزلة تامّة، فقرروا استلام الحكم بالقوة.
وعندما عاد الحاكم إلى مكتبه وجد العفريت شمهروش جالسا على كرسي الرئاسة ويتصفح المراسلات، عندئذ قال شمهروش للحاكم السابق: "عد إلى الحمام ومارس نشاطك الأصلي، واعلم أن الحكم لا يمارس بالقسوة وآفته أن يكون القائد مستبدا ويتبنى – كأداة للحكم – سياسة التمييز والتجويع... انصرف من القصر وإلا...". لما أراد الحاكم الخروج وجد سفوس العفريتة الأنثى حلت محل إدارة الديوان، وغيرت كافة الأفراد وقالت له: "أيها الحبيب اتبعني من هنا"، وبدلا من الإنصياع، دار إلى اليمين وهرب، ومر بعمال النظافة يجري، واجتاز جميع بوابات القصر متجها نحو قيادة أركان الجيوش.
انتشر الخبر، وعلم المنتدى واستبشر خيرا.
لما وصل إلى قيادة الجيوش وضع أصبعه على شفتيه، فظن الحراس أنها زيارة مفاجئة وفتحوا الأبواب، فصعد مباشرة إلى الطابق الثالث، واستدعى اجتماعا مصغرا وفوريا، وقال للجنرالات وهو مرتبك : "لقد استلم العفاريت الحكم وسيطروا على القصر، وقد استطعت النجاة منهم" فابتسم أحد الجنرالات، فنظر إليه نظرة ثاقبة وقال له: "إنك معفي من الوظيفة"، فسأل الثاني - في براءة - قائلا: "ماذا يجري حقا؟" فقال له الحاكم : "أنت معفي من الوظيفة أيضا". لم يتفهم الحضور طبيعة الحدث، ولم يفهموا حتى ما ألم بالحاكم، فخرج أحد الضباط وأجرى مكالمة مع رئيس مجلس الشيوخ وسأله عن رأي المشرع في حاكم أصيب بالجنون. فأجابه بأن القانون صريح حيث يلزم بالمحافظة عليه، وبإحاطة ملفه بالسرية التامة، وبإرساله فورا إلى مصحة. عاد الجنرال بعد المكالمة إلى المكتب وقال لرفاقه: "حافظوا على السيد الحاكم حتى أستدعي سيارة إسعاف" فأجابه الحاكم: "لا حَفِظَكَ الله.. أهكذا تتخذ القرارات الحاسمة؟ إنك معفي من الوظيفة." ثم قام عن مقعده وقال: "أنا القائد الأعلى للقوات المسلحة بقوة القانون، جهزوا الدبابات والجنود واقتحموا القصر، وخلصوه من محتليه".
بعد نصف ساعة أحاطت القوات المسلحة بالقصر، وحمى الوطيس واستعملت القوات جميع أنواع الأسلحة: الثقيلة والخفيفة، واستعمل العفاريت بعر الحمير الثاقب؛ وبدأت النيران تشتعل في كل مكان، وبعد زهاء ساعتين خفت المعركة وبدأ الطرفان بسحب الجرحى؛ أصيب قائد الحرس ببعرة حمار ساخنة أصابته في جبينه، وانسحب من المعركة فورا ليوافي الحاكم بالنتائج، ولما وصل وقبل التبليغ، نهره الحاكم وقال:"لماذا لم تشارك في المعركة؟" فأجابه: "أنا شاركت لكنني أصبت" وأشار بأصبعه إلى جبينه، قال له الحاكم : "إن الإنقلاب الثاني ليس كالأول، إنك معفي من الوظيفة".
في تلك الأثناء التأم منتدى المعارضة، وشاعت تفاصيل الإنقلاب، وصدر البيان (رقم:1) على النحو التالي:
[أيها الجماهير؛ يا شعبنا المستباح..
خلال العشر سنين الأخيرة تهاوت منظومة القيم، وتفكك النسيج الإجتماعي، ونهبت خيرات البلد من طرف نظام مستبد أكل الأخضر واليابس، ونهب ما فوق سطح الأرض وما في تخومها، ولما عجز البشر عن الإطاحة به تحملنا مسؤولياتنا نحن العفاريت واستلمنا مقاليد الحكم بالقوة. فمن دخل المرحاض فهو آمن، ومن دخل المسلخة فهو آمن، ومن طلى جسده بالرماد فهو آمن، ومن دخل مكتب الأستاذ يحى فهو آمن. ويعتبر المجال الجوي والبحري والأرضي مغلقا حتى إشعار جديد]
تابع زعماء المعارضة البيان، وأصيبوا بصدمة شديدة، وبعد صمت طويل وذهول أصاب الجميع قال أحد الزعماء: "لقد حدثني ولي من الأولياء أن دولتنا هذه –رغم نبل شعبها، ووفرة مواردها، وقلة ساكنتها، وموقعها المتميز- مصابة بـ(تَزَبُّوتْ)، وأن مستقبلها مظلم، وإذا لم نغيِّر من أسلوبنا في التعاطي مع الشأن العام لن تقوم لها قائمة". قال زعيم آخر: "الآن وقد حصل ما حصل، ماذا سنفعل؟" وبدأ النقاش.
في تلك الأثناء خرجت الجماهير من كل حدب وصوب ابتهاجا بالإنقلاب دون معرفة الحاكم الجديد، وكان يتقدم المسيرات أعضاء بارزون من عشيرة الحاكم السابق، وآخرون من الحزب الحاكم، والتقت مسيرات الأغلبية بالمعارضة ليختلط الحابل بالنابل في غياب الأمن والسلطة. وتوجه سيل البشر هذا إلى القصر الرمادي، وغصت الشوارع كلها.
كان الحاكم السابق ينظر من نافذة قائد أركان الجيوش، ودموعه تسيل على خديه ندما. ويقول في نفسه: "لماذا انقلب علي هؤلاء؟ ولماذا بقيت وحيدا بعد ما قمت به من خدمة للشعب والدولة؟ كيف يمكن لأبناء عمومتي والمقربون أن يبتهجوا بسقوطي؟ كيف يمكن لهذه الجماهير العارمة مساندة العفريت شمهروش والتخلي عني؟ أنا المناضل الذي كافح الفساد، وبنى الطرق، وشيد الجامعات والمستشفيات، والمدارس؛ إنني لا أصدق."
كانت هذه الخلجات تمر في ذهنه و سفوس )الملقبة لاله( تقف بجانبه دون أن يراها، وفجأة غمزته وقالت له: "أيها الحبيب، لقد أصبتَ بجنون العظمة حتى ظننتَ أنك مَلَكٌ لا تنام ولا تتغوط ولا تتبول، وإن فعلت شيء من ذلك فالبول ماء (زمزم)، والغائط (ويتابيكس) وتلك هي قمة الغرور. ويبدو أنك لم تدرك أيها الحاكم أن ما قمت به من إنجازات كان واجب، ومصدره دافعي الضرائب، وما لم تقم به كان تقصيرا، وقد نسيت مدلول الآية الكريمة ﴿ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾ صدق الله العظيم، وتجلى مفهوم الآية فيما وقع. أما الآن فلم يبقى معك سواي أنا لالة وسأنفرد بك وأقبلك على راحتي كل يوم سبع مرات وكل ليلة سبع مرات. فإن شئت أبكي، وإن شئت (صَفَّطْ)، فزمن البطش قد ولى." وابتسمت وجعلت ذراعها وراء عنقه، وقالت له: "هكذا مصير من صبعت له (اهْرَيْلَّه) وهكذا أيضا مصير من حَبَّتْهُ لالة."
لكن البلد وهو يعيش الإنقلاب – الناجح – الخامس، دخل في دوامة في غياب حاكمه السابق وقساوة شروط شمهروش، وفي ظل وضع كهذا واصل المنتدى نقاشاته طيلة الأسبوع في جو مشحون ولم يتمكن من تبني موقف من: حكم العسكر وحكم العفاريت أيهما يختار؛ لتبقى الجماهير أمام القصر في انتظار البيان (رقم 2)، ويبقى الحاكم بين ذراعي لالة حتى يُنجز دفاعُ المعارضة ملف الإتهام، ويُنفذ ولد داداه تهديده الشهير بالمتابعة والمحاكمة.
...يتواصل..
من وحي الخيال