...ومن تكون العاصمة المستهدفة بهجماته بعد بروكسل؟ وما هي بدائله اذا خسر الموصل والرقة؟ ولماذا بات الآن اكثر خطورة وشراسة؟
تعيش معظم العواصم الاوروبية حاليا حالة من القلق والتوتر الامني منذ تفجيرات مطار بروكسل، وبعض محطات المترو التي نفذتها خلية تابعة لـ”الدولة الاسلامية” التي سارعت باعلان وقوفها خلفها، فالمطارات الاوروبية تعمل في اطار خطط طوارىء قصوى، ورجال الامن بملابسهم المدنية، او الرسمية، في كل مكان تقريبا، وانا شخصيا تعرضت للمسائلة في احداها من دون بقية الركاب، ربما لان شكلي عربي شرق اوسطي، رغم انني لست ملتحيا، ولكن شاربي “الصدامي” الكث يوحي بهويتي على اي حال.
اسئلة كثيرة تتردد حاليا في الصحف ومحطات التلفزة الغربية على السنة “الخبراء” في شؤون الارهاب، عن اسباب استهداف بروكسل، ولماذا الآن، وهل هذه الهجمات انتقام لاعتقال الشاب صلاح عبد السلام، العقل المدبر لهجمات باريس؟ ثم اين سيكون الهجوم المقبل؟
*** اختيار بروكسل جاء لعدة اسباب، ابرزها وجود جالية اسلامية كبيرة، تشكل حوالي 30 بالمئة من سكانها، ولمشاركتها في التحالف الستيني الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وتغير طائراته يوميا على مواقع “الدولة الاسلامية” في العراق وسورية (اكثر من 10 آلاف غارة حتى الآن)، ولوجود البرلمان الاوروبي، ومقر حلف “الناتو” في قلبها.
ربما لا نبالغ اذا قلنا ان بلجيكا واحدة من اكثر “الحواضن” الاوروبية دفئا بالنسبة الى “الدولة الاسلامية” والمتعاطفين، ويعتبر مواطنيها الذين التحقوا بـ”الدولة الاسلامية” هم الاعلى نسبة بالنسبة الى عدد السكان (400 مقاتل من مجموع 11 مليونا)، ومعظم هؤلاء المقاتلين من دول المغرب الاسلامي، وغادروا فعلا الى سورية والعراق عبر الاراضي التركية.
اتحدث هنا من تجربة شخصية، واقول انني طوال السنوات العشرين الماضية التي ترددت فيها على بروكسل للمشاركة في ندوات ومحاضرات، كان من النادر ان ادفع “يورو” واحدا لسائقي التاكسي، فقد كانوا من المغرب الاسلامي في معظمهم، ويتعرفون علي من خلال ظهوري التلفزيوني، ويرفضون تقاضي اي اجرة، ولكن اثناء آخر زيارة لي بعد تفجيرات باريس، لاحظت حالة القلق والخوف في اوساطهم، حتى ان السائقين انفسهم تجنبوا الحديث معي باللغة العربية مثل المرات السابقة، ولم يتحدثوا في السياسة وشؤون المنطقة كعادتهم، ودفعت الاجرة كاملة هذه المرة.
عندما اقول ان هناك حاضنة لـ”الدولة الاسلامية” في بروكسل فانني اشير الى الكثافة السكانية العربية والاسلامية فيها، ووجود نسبة من المتعاطفين، لكن الاغلبية الساحقة معتدلة ومسالمة، وتتبرأ من العنف والارهاب ومنظماته، فالشاب صلاح عبد السلام استطاع التخفي لمدة اربعة اشهر من الشرطة البلجيكية التي كانت تطارده في منازل معارفه واصدقائه في ضاحية “مولينبيك” التي يشكل العرب والمسلمين الغالبية العظمى من سكانها، وتعتبر منطقة مغلقة بالنسبة الى الشرطة، ولم يبلغ احدهم الشرطة عن مكانه، وعملية الاعتقال تمت بسبب مكالمة هاتفية لاحد اصدقاءه، تماما مثل اخطاء مماثلة اقدم عليها قادة في تنظيم “القاعدة”.. مثل خالد شيخ محمد، ورمزي بن الشيبة، وابو مصعب السوري.
لا نعتقد ان تفجيرات بروكسل التي وقعت يوم الثلاثاء الماضي جاءت انتقاما لاعتقال الشاب عبد السلام، لان مثل هذه الهجمات تحتاج الى تحضير مسبق يستغرق بضعة اسابيع، او حتى اشهر، خاصة الشق المتعلق منها بالتفجير الانتحاري في قاعة المغادرة في مطار بروكسل، ونرجح ان تكون وراءها خلية منظمة ومدربة جيدا، وتضم اكثر من عشرة اشخاص على الاقل.
“الدولة الاسلامية” بدأت تتبنى استراتيجية جديدة تقوم على نقل الحرب الى عواصم الدول التي تحاربها، والاوروبية منها على وجه الخصوص، في ظل اشتداد الخناق عليها، وتصاعد استعدادات دول التحالف العربي والغربي للهجوم على مقريها في الموصل والرقة، الامر الذي سيدفعها الى الانتقال الى مراكز اخرى، واللجوء الى العمل السري (تحت الارض) انتظارا لمرور “العاصفة” الحالية تماما مثلما فعل تنظيم “القاعدة” الام بعد الغزو الامريكي الغربي لافغانستان في تشرين الاول (اكتوبر) عام 2001، في اعقاب هجمات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، عندما انتقلت قيادته الى اليمن، وبعد ذلك الى سورية عبر تشكيل “جبهة النصرة”.. ومنطقة الساحل الافريقي (مختار بلمختار).
فالانباء الواردة اليوم (الخيس) تفيد ان قوات الجيش السوري الرسمي، المدعومة بغطاء جوي روسي دخلت الى مدينة تدمر التي يسيطر عليها تنظيم “الدولة” منذ ما يقرب العام، بينما تقترب قوات الجيش العراقي المعززة بقوات خاصة وغطاء جوي امريكي، علاوة على وحدات من قوات البشمرغة الكردية من مداخل مدينة الموصل بعد نجاحها في استعادة مدينة الرمادي قبل شهرين.
من الصعب علينا تحديد ملامح الاستراتيجية “الهجومية” الجديدة لتنظيم “الدولة الاسلامية”، ولكن يمكن التكهن بأنها اختارت ليبيا كمقر احتياطي، ومناطق درنة والجبل الاخضر في الشرق، وسرت في الغرب، والكفرة في الجنوب، حيث يبلغ عدد مقاتليها حوالي عشرة آلاف من رجال القبائل الاشداء الذين جرى تهميشهم بحجة دعمهم للنظام السابق، علاوة على عناصر امنية كانت تابعة لنظام العقيد معمر القذافي، مضافا الى ذلك ان هناك حوالي 30 مليون قطعة سلاح من مختلف الانواع والاحجام في ليبيا، وآلاف الاطنان من الذخائر والعتاد الثقيل، وربما يكون اليمن هو احد الخيارات الاخرى بالنظر الى عمليات التنظيم الاخيرة ضد قوات التحالف السعودي في الجنوب وعدن، على وجه الخصوص.
*** استهداف عواصم اوروبية اخرى غير بروكسل، امر غير مستبعد في اطار الاستراتيجية الهجومية الجديدة، مثل باريس ولندن، وربما امريكا نفسها، لان “الدولة” تبحث عن تحقيق الشق المتعلق بـ”الصدمة الاعلامية” في استراتيجيتها، فرغم انها نفذت اكثر من 75 هجوما خارج سورية والعراق في الـ18 شهرا الماضية، الا ان الهجمات الوحيدة التي حظيت بتغطية اعلامية مكثفة من بينها تلك التي وقعت في باريس وبروكسل.
واذا صحت المعلومات التي تؤكد ان هجوم اسطنبول الانتحاري الاخير من قبل خلية تابعة لـ”الدولة الاسلامية” تعمد استهداف عددا من السياح الاسرائيليين (اوقع 5 قتلى وعشرة جرحى)، فإن هذا ربما يكون مقدمة لهجمات مماثلة في عواصم اوروبية اخرى، وسيشكل تطورا جديدا خاصة انه منذ نجاح الدول الغربية والعربية في “تدجين” منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، واقناعها بوقف مثل هذه الهجمات ضد اهداف اسرائيلية مقابل الاعتراف الدولي والحلول السلمية، لم يتعرض الاسرائيليون لاي هجمات في اوروبا منذ خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982.
تنظيم “الدولة الاسلامية” الذي خسر اكثر من 30 بالمئة من الاراضي التي يسيطر عليها في العراق وسورية، ربما يكون اكثر خطرا في الاشهر المقبلة، فكلما اشتد الخناق عليه، كلما اصبح اكثر شراسة وتعطشا للانتقام، او هكذا نعتقد.