العلاقات السنغالية الموريتانية هي نتاج لصلات ضاربة في القدم يتداخل فيها الديني بالروحي والاجتماعي والثقافي بالسياسي وتتقاسمها رواسب التاريخ المشترك وعوالم الجغرافيا المتجاورة.
حين كنت صغيرا كنت أذهب في رحلات إلى السنغال وكنت ألحظ أن الشرطة السنغالية يقدرون الموريتانين تقديرا خاصا وكلما رأوهم قالو :"شريف حيدره" ويأمورونهم بالتجاوز دون حتى التدقيق في الأوراق بينما كنا نحن ووفقا لبعض القناعات البالية كلما رأينا أسودا ظنناه نشالا أولصا وكلما رأينا قافلة منهم نادايناها: "أيتها العير إنكم لسارقون".
حين كبرت أدركت أن أوجه الاختلاف بيننا وبين جارنا الأقرب كثيرة ووفيرة ولعل أبرزها قدرتهم على أن يؤمنوا مناخا صالحا للتناوب السلمى على السلطة مما أتاح لهم أن يختاروا قادة يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم موظفون لدى الشعب وليسو قياصرة أو أكاسرة .
حين همّ قبل فترة أحد رؤساء السنغال السابقين وأكثرهم ثقافة أن يعدل الدستور ويترشح لفترة ثالثة وقفت ضده مجتمعة كل النخب السنغالية مدعومة بشخصيات روحية أبت أن تعطى للرجل رغم إنجازاته الضوء الأخضر من أجل خرق دستور يفاخر به السنيغاليون جيرانهم.
رغم شح مواردهم وقلتها إلا أن حكام السنغال وشعبه ونخبه يخططون للمستقبل ولديهم رؤية واضحة المعالم للسنوات والعقود المقبلة فالمناخ الديمقراطي أتاح لكل الأطراف أن تتبادل على الحكم وأن تتنافس من أجل إرضاء فلاح في كاصا ماص ومتصوف في كولخ ومهندس في دكار. الديمقراطية علمتهم أن لأصواتهم قيمة وأنهم ليسوا قطيعا يصاغون إلى الصناديق غداة كل انتخابات.
يبدع السنغاليون حين يطرحون فكرة تعديل الدستور ليس من أجل تمديد مأمورية الرئيس -الأوحد والأبرز والأصلح– وإنما من أجل تقليص مأموريته إلى خمس سنين...
ونبدع نحن في الاتجاه الآخر حين يخرج شباب في عمر الزهور منهم من درس في أعرق الجامعات ليطالب بتعديل الدستور مثنى وثلاث ورباع، ليتيح الفرصة للنظام
لينقض العهد ويخلف الوعد.
أكبر مشكلة تعانى منها موريتانيا منذ ولادتها العسيرة هي إشكالية التناوب السلمى على السطلة فجل من حكمنا جاء بانقلاب وذهب بانقلاب...
...
المشكلة ليست في النظام ولا الحكام فقط وإنما في النخب السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية التي شرعت لكل حاكم أن يحكمنا كيف شاء وفقا لمزاجه دون مراعات لدستور ولا قانون.
لقد تجاوزنا السنغاليون كثيرا رغم كثرة عددهم وقلة مواردهم إلا أنهم جعلوا من حكامهم خداما لهم يأتمرون بأمر الشعب وينتهون بنهيه.
أحلم باليوم الذى أرى فيه وزيرا يستقيل من منصبه لأنه فشل في إدارة مشروع أو احتجاجا على قرار لا يتماشى مع قناعاته.
أحلم باليوم الذى يدعو فيه رئيس منتخب لانتخابات سابقة لأوانها لأنه قدم ما عنده ويريد إفساح المجال للآخرين.
أحلم أن نملك معارضة حقيقية تتحد مع هموم الشعب ولا تفرقها الخلافات العابرة ولا بُنيات الطريق.
أحلم بأغلبيةٍ تدعم المشاريع لا الأشخاص، أغلبيةٍ تمتلك خطابا مقنعا وتساهم في الإصلاح دون أن تكتفى بدور التطبيل والتصفيق.
أحلم بشعبٍ يفرض رأيه كما فرضه السنغاليون ذات يوم مشهود حين أرغمو أحد رؤسائهم على أن يترك السلطة رغم ما تحلى به الرجل من ثقافة وحكمة وسابق نضال.
أتمنى أن تكون 2019 فاتحةَ أمل على غد جديد لا خطوة نحو المجهول وفي انتظار ذلك يبقى السنغالُ الأخَ الذى نحتاج أن يصدّر لنا الديمقراطية دون أن ينقص ذلك من ديمقراطيتهم كما يحدث حين نصدر نحن لهم الكهرباء.