عرف الكاتب والباحث السياسي اللبناني قاسم محمد عثمان الفرنكفونية بـ"أنها واقع معاش ونمط تفكير وسلوك حياة، قبل أن تكون انخراطاً في نموذج سياسي أو في كيان جغرافي. فهي كيان يتحرك فيه الإنسان ضمن تنوعه العرقي والوطني والديني، وهي مكان للتلاقي بين البشر ولتبادل المعلومات وتناقل المعرفة وتقاسم الثقافة. وهي إطار للتلاقح المثمر ولتقدير الحياة بالمعنى الإنساني والأخلاقي للكلمة. ولأجل ذلك كله، تعيش الفرنكفونية وتتطور وتترسخ ضمن التعددية واحترام خصائص الآخر وخصوصياته واختياراته".
و منظمة الفرنكفونية التي تأسست يوم العشرين مارس ألف و تسع مائة و سبعين تضم خمسة و خمسين دولة عضوا كانت من مستعمرات فرنسا سابقا، إلى جانب ثلاث عشرة دولة لها صفة مراقب. و بالإضافة إلى المستعمرات الفرنسية القديمة تضم المنظمة دولا مثل "بلجيكا" و "لوكسنبورغ" ومقاطعة "الكيببك "الكندية.
و تزدهي "الفركوفونية" اليوم بحسن طالعها في أغلب البلدان المنتمية إلى فضائها تعلقا و تشبثا و استيعابا إلى غاية جلب دول إفريقية ناطقة بـ"البرتغالية" و "الاسبانية"، من نفس سلالة اللاتينية، لم تعد تجد منذ أمد غضاضة في التعبير عن رغبة الالتحاق بركبها و العمل في فضائها. كما استقطبت الفركفونية عددا من الدول المنتمية لفضاءات لغوية أخرى مختلفة لتسجل نفسها أعضاء بصفة مراقين إعجابا و مصاحبة و طمعا في الاستزادة من الإشعاع و العطاء.
و لما أن الفركفونيين في بلدانهم من الغوادلوب و المارتنيك و غيرها من جزر الآنتيي، إلى الغويانا الفرنسية في مناطق ما وراء البحار إلى جزر القمر و مدغشقر في المحيط الهندي، إلى جامايكا إلى ساحل العاج و الكونغو و وبركينا فاسو، إلى بتونس و الجزائر و المغرب في المغرب العربي، إلى مالي و السنغال و غيرهما في غرب إفريقيا، قد استمتعوا بقوة الفرنسية و استفادوا منها و أثروا حضورها و زادوا إشعاعها العالمي المتميز بأن امتلكوا ناصيتها دون عقد أو شعور النقص فاستخدموا قدراتها حتى نحتوا لأنفسهم و بلدانهم مكانة سامقة في فضاءات العطاء العلمي و الأدبي ليتوج بذيوع صيتهم:
· كتابا بارزين و روائيين لامعين و فنانين و سينمائيين مبهرين و شعراء مبدعين،
· و علماء متميزين بعطائهم الراقي حتى دخل البعض منهم سجل التاريخ بمشاركات علمية عالية و اختراعات تطبيقية كـ"الشيخ آنتا جوب" العالم و الدكتور الفيزيائ و المؤرخ السنغالي مؤلف كتاب الاصول الزنجية للحضارة المصرية، و "نوربير رياه" مخترع بلورة السكر و "كروتر" مخترع محول الصور و "كاريت مورغان" مخترع قناع الغاز و "راوول جورج نكلو" و غيرهم كثير ممن أسهموا بمداد الفرنسية في تطوير العلم و التعريف بالحضارات و الدفاع عن الثقافات كسينغور و المؤرخ الكبير "آمباتي باه" و "أمي سيزار" و "ادريس اشرايبي" و"الطاهر بن جلون"و "المحوف آرموش" و "بن شيخ جمال الدين" و "براغو جوب" و "كمارا لاي" و اللائحة طويلة و إن ما زال البعض منهم يعاني حرمانه من الاعتراف الصريح و التقدير المستحق.
فإن الفركوفونيين في موريتانيا باتوا بإنتاجهم الهزيل و حضورهم القاري و الإقليمي و العالمي الباهت لا يسايرون اللغة الفرنسية إلا في نسختها البالية و المهيمنة على الإدارة في فوضويتها و ارتجاليتها و تأخر مناهجها و أساليبها، و في أدائها على مستوى الحراك التنموي بمُنكشِف الضعف و العجز عن مسايرة حركة التنمية من حول البلاد؛ و هم ليسوا في ذلك بأضعف حال من نظرائهم أصحاب اللغة العربية الغراء و الذين كبلوها بأصفاد الماضي المتحجر و حاصروها بقلة العطاء و ضعف الإيحاء من نفحات الحداثة و بالتمادي المفرط في احتضان شعور النقص تجاه اللغات الغربية الحية بدل استخدامها لتخطي مطبات التخلف و إسفاف الماضوية المعشعشة في العقول، ناسين أن مبعث حيوية هذه اللغات ليس سوى اللغة العربية نفسها يوم كان أصحابها من السلف و من على شاكلتهم من الذين امتلكوا ناصيتها من الأعاجم بدء بسيبوية و انتهاء بالخوارمي.
هو إذا و بكل مرارة الواقع حال جلي من الضعف على الضعف:
· فلا "الفرنكفونيون" أوصلوا بها، لغةً نضجت عندهم، البلادَ مرحلةَ استواء العود و كمال الأداء كما هو الحال في البلدان الأخرى من حولنا عربية و إفريقية،
· و لا "أهل الضاد" امتلكوا ناصيتها القويمة حتى يبوئوها مكانتها العزيزة و قد نزل به القرآن الكريم و بلغ ببيانها المعجز المحفوظ رسولُه الكريم عليه أفضل الصلوات و أزكى السلام، و قال فيها شاعر النيل الكبير حافظ إبراهيم:
وسـعـت كتـاب الله لفـظـاً وغـايــة ** وما ضقت عن آيٍ به وعظـــــات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ** وتـنـسيـــق أسمـــاءٍ لـمـخـترعات
أنا البحر في أحـشـائه الدر كـامـن ** فـهل سـألوا الغواص عن صدفاتي