"التخلف شجرةٌ ملعونةٌ، ضارِبةُ الجذور، غليظة السّاق، متشعِّبة الأغصان، مُتداخلة الفروع، خَبيثةُ الثِّمار، غزيرة البذار، تُخيِّمُ بظلالها الممتدة السوداء على حياة العديد من مجتمعات الأرض، فتصِبغُ وجودهم بلون تلك الظلال المُعتمة الكئيبة النَّكداء... إنّها شجرةٌ تنبتُ في تُربة الجهل، والخُرافة، ونَبْذِ المنطق، وضياع المنهج، وتردّي أساليب التفكير، وتحجُّر الذهن، وجمود الأفكار، وسيطرة الانفعالات، والنَّظرة الذاتيّة السطحيّة المحدودة الأفق.. وجذور تلك الشجرة مُتغلغلةٌ في غياهب القمع، والاستبداد، والتَّسلط، والقهر، وتحكُّم الكبير بالصغير، والرئيس بالمرؤوس، وصاحب العمل بالعامل، والمدِّرس بالتلميذ، والموظَّف بالمواطن، والأب بالأبناء، والزَّوج بالزَّوجة، والذّكر بالأُنثى، وتحكُّم الأعراف والتقاليد بحريّة الفرد ومصيره وآماله. ومن كلِّ ذلك تَمتصُّ تلك الجذورُ ماءَها، وغذاءَها، وسمادَها، وأسبابَ نمائها، بل تستمدُّ روحَها وحياتَها وبقاءَها..."
على الرغم من صعوبة إعطاء تعريف شامل أو محدد لمصطلح التخلف على اعتبار أنه ظاهرة اقتصادية واجتماعية تتغير من مجتمع لآخر و علما أنه لا يزال كذلك فقهاء الاقتصاد مختلفين حول تعريف الظاهرة التي تعد من أخطر ظواهر هذا العصر، و قد زاد انتشارها بعد الحرب العالمية الثانية حتى استحوذت على اهتمام رجال الاقتصاد فيطلقوا تسميات مختلفة على البلدان التي تسودها كالعالم الثالث و الدول النامية أو الدول الفقيرة.
ففي حين يرى البعض أن التخلف ركود أو تدهور اقتصادي على مدار الزمن، يرجعه آخرون إلى عجز البلدان عن استغلال ثرواتها بالطرق العلمية. و إن آخرين يرون أن التخلف يضر المجتمعات التي تعتمد على المواد الأولية أي على الصناعة الاستخراجية لا على الصناعة الابتكارية. و يُسنِد البعض من الاقتصاديين تفسيره للظاهرة على طبيعة النشاط الاقتصادي كمعيار للتفرقة بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة إلى حد اعتبار الدول الزراعية بلدانا متخلفة و الصناعية متقدمة. و إن ثمة منهم من يرده إلى التدهور في مستوى الدخل الحقيقي للفرد و أن التخلف لا يعدو كونه انعكاسا لوظيفة اقتصادية متدهورة في مجتمع معين ومحدد و انخفاض مستوى الإنتاج القومي مع عدم عدالة توزيعه بين أفراد المجتمع إضافة إلى ركود النمو الاقتصادي.
و يتجلى كل معنى تخلف البلدان التي تتصف به في مخلفات و آثار ومظاهر متردية على المستوى التعليمي والصحي و البنية التحتية و المعيشي و الاقتصادي و الاجتماعي والثقافي و في غياب المرافق العمومية و ضعف الحكامة و الفساد و سوء التسيير. و ربما أن أفضل تعريف للتخلف في شقه الاقتصادي يبقى ذالك الذي يعتبر أن الدول تصبح متخلفة حين لم تهيئ لسكانها القدر الكافي من حاجاتهم الضرورية وأسباب رفاهيتهم مقارنة بما تقدمه الدول المتقدمة لسكانها، و يكون مستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي متدن ومحدود.
و هل موريتانيا إلا في من هذه الدول التي تجتمع فيها كل علامات و أسباب التخلف منذ استقلالها و قد مضى عليه ما يناهز الستة عقود على الرغم من تمددها بحظوة نادرة بين نهر معطاء و شاطئ جواد و وديان سخية و جبال حبلى بأنفس المعادن و بترول و غاز في البر و البحر و تربة نادرة و حجارة كريمة و تضاريس مرنة و منسابة لا تعيق التنمية في ظل غياب أدنى علامات التصنيع الذي ينظر إليه على أنه منطلق أساسي لعملية التنمية الاقتصادية ومظهر من مظاهر قوة الدولة وعظمتها، ومجال لزيادة فرص العمل للجميع ووسيلة لاستثمار الموارد الوطنية، وأداة لمنع استغلال ثرواتها من قبل الدول الأخرى، و على أن تأثير عملية التصنيع لا تقف عند هذا الحد، بل يؤدي إلى توزيع الاقتصاد الوطني في الدولة المتخلفة لأن قطاع الصناعة يتمتع بآثار جذب قوية يمارسها على كل أجزاء الاقتصاد الوطني الأخرى؟
و بالطبع فإن من أهم أسباب التخلف الذي تعاني منه موريتانيا و بعض البلدان التي ما زالت على قلتها تحت حصاره تتجلى ـ علاوة على انخفاض مستوى التعليم وارتفاع مستوى الأميين بها وتخلف النظام التعليمي الذي يكرس نقص المهارات والكفاءات الإنتاجية للعمال و ضعف المستوى الصحي الذي يشل الطاقات ـ في جملة الأساليب التي ما فتئ يتبعها منذ النشأة الفاعلون في الممارسة السياسية الخاطئة و تعطيل المسار التنموي رغم تحرر الشعوب من نير الاستعمار الذي عرفته، إلا أنها لا تزال متقوقعة في أوضاعها السابقة المتسمة بالتمسك باعتبارات الماضي التي تثقل كاهل الحاضر و تخضع البلد لمعاناة العجز الدائم في ميزان مدفوعات حصيلتها من العملات الأجنبية التي تتطلبها التنمية الاقتصادية، و هو العجز الحاصل على خلفية سوء التسيير و الفساد و نهب و تبديد المقدرات. وأما الأسباب الاقتصادية التي تعاني هذه الدول فإنها و كما يراها "آدم سميث" و "فريدريك ليست" هي نتيجة مرورها بعدد من المراحل متتالية في الحراك الاقتصادي و التطور المجتمعي. و إن للأسباب الاجتماعية كذلك دورا بالغ التأثير كما هو الحال بالنسبة للخصائص السياسية حيث أن موريتانيا التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي لم تحصل على استقلالها السياسي إلا في العام 1960. و قد عمد هذا الاستعمار إلى استنزاف الموارد الاقتصادية للبلد قبل الوقوف في سبيل تطورها السياسي والاجتماعي إلى دولة المواطنة المدنية باعتماد سياسات التفرقة بين مكونات شعبه و شرائحه و إضعاف لحمته و من ثم تفكيك مجتمعه بخلق البلبلة فيه و التوجه إلى المساس بالجانب الديني و إذكاء فتن التمييز العنصري و تهييج الطوائف على خلفية ما هو موجود من أسباب ذلك في البنية القديمة التي ما زال المرجفون يتمسكون بها و يستخدمونها مطية و سلاحا لتكريس بقاء واقع التخلف القائم و لتظل الممارسة السياسية إلى ذلك تتأرجح بين سياسات الحدة و التزلف.