و تظل الساحة الفكرية "افتراضية" إلى حد الخيال بما تنضح به من مخرجات لا تحمل الهم الوطني الملح بل لا تعبر عنه بأي شكل من الأشكال التي تتيحها منذ أمد بعيد أصول التجربة التعليمية العالمية و مناهجها العالية و تقاسمها على نطاق العالم الذي تحرر من أغلال الجهل و ربقة الظلامية الغابرة؛ و هي الساحة التي تأبى أن تقدم من العطاء بتصريف فعل الحاضر الصارخ بالنقص إنتاجا يبث حتى رسائل أمل و لو كان بعيد المنال فيوحي بأن كسر حاجز التحجر في هيكل الماضي المغبر أمر ممكن مهما طال الأمد، و أن كنس شظايا كؤوس مسكراته في المتناول، و أن ما يحجب رؤية قرص شمس المستقبل بات أوهن من بيت العنكبوت، و أنه لا يفصل عن ذلك إلا مسحة من اليد ليزول.
قد يكون صحيحا أن قيام الأنشطة و التظاهرات باللبوس الفكري و الثقافي و لو بالحجم المطبوع بختم الآنية تارة و المبصوم بأصابع الارتجالية تارة أخرى من ناحية، و بالمستوى المتدني المضمون و المائع المقصد، أمر ملموس خير ألف مرة من لا شيء من ناحية أخرى؛
و لكن غير صحيح بالمقابل أن ذلك الأمر هو وحده المتاح الذي يعول عليه في تغيير الواقع المتسم بركود الحراك السياسي و الاجتماعي و أنه لا قبل للواعين واقع الحال هذا و المتنورين المسلحين بوسائل التغيير، و هم كثر، بزحزحة باعة المستقبل بصكوك ارتهان الحاضر المضطرب للماضي الحاضر بكل سلبياته من أجل أطماع أنانية و لاستنان "الرداءة la médiocrité" نظاما معرفيا و سلوكا عمليا في كل جوانب الحياة الوطنية.
و لأن الهدف المنشود من وراء كل تظاهرة ذات طابع فكري أو علمي أو تنويري ثقافي هو:
· القدرة على التجاوب مع طبيعة التحول الذي يستدعيه واقع التأخر عن متطلبات المرحلة ومحركات هذا التحول وقواه الجديدة على الساحة الفكرية و الاجتماعية و السياسية و الحقوقية و التنموية،
· التبصير بقضية كبرى ترفع للبلد شأنا و تزيد المواطن إدراكا بأهميتها،
· الترسيخ لسلوك مدني معين على ملامسة المدنية في أرقى أشكالها و أجل عطائها،
· الرفع من المستويات المعرفية و العلمية للمواطنين حول المستجدات المعرفية و الاستكشافات العلمية و التقنية و التطورات و التحسن الحاصل في المجالات القانونية و الحقوقية و الإنسانية و السياسية،
فإنه من أوجب الواجبات على المؤهلين العطاء في مضمار المعارف أن يعوا دقة مهمتهم و أن لا ينجرفوا وراء سهولة التعاطي و رغبة الظهور والتلميع و الطلاء على ضعف العطاء. كما أن المؤسسات و الجهات الدراسية و الهيئات العلمية و المراكز البحثية و النوادي الفكرية مطالبة بالابتعاد عن الابتذال و الاستسهال و السفسطة و عن ميت المادة و غث المواضيع، حتى تسموا كلها بحقول المعرفة إلى أبعد الآفاق و أرحبها و حتى تسلك بالمواطن دروب العطاء البناء و المدنية الراقية و سلوكياتها العالية، و حتى تهجر منابر الكلام المبتذل و الخطاب الخالي من مقومات الخطابة المربحة في المعركة ضد الجمود الفكري و التخلف عن ركب الحداثة و نادي العولمة الذي لا يقبل إلا المساهمين الأكفاء؛ و هي مراكز الدراسات البحثية التي لا بد لأجل الوصول إلى ذلك:
· أن تكافح عجزها عن استقطاب الخبرات الوطنية الجدية بعيدا عن الانتقائية السلبية المبنية على عديد الاعتبارات التي ولى عهدها،
· و تضع حدا لانتشار تصنيفاتها السياسية والأيديولوجية بما يؤدي فشلها في تسويق نفسها،
· و تتوقف عن الاستئثار على إنتاجها الفكري والترويج له بالرغم و أن لا تغطي على ضعفه في الغالب الأعم و لا تصرف النظر عن عدم قدرتها على الوصول للطيف العام و إفادته من دون أن تغفل أيضا العمل الجاد للوصول إلى موازنة حل الإشكالية الثلاثية المتمثلة لديها في التمويل، والاستقلالية، والقدرة على التطوير والاستمرار لحصول الأجواء المناسبة التي تحيطها الحرية بحيث توفر أوسع مساحة للتفكير العقلي، علما بأنه لا بد لذلك من التأكد من استقلالية المراكز في قراراتها ونتائج أبحاثها وعدم وجود غطاء ضغطي على عملها يتولى توجيه أبحاثها وفقاً لغايات معينة أو لإدارة جهات محددة