ذاكرة القتاد

جمعة, 03/11/2016 - 14:40
بقلم: محمدُّ سالم ابن جدُّ

عجيب أمري وأمرها.. لم تعن لي شيئا في البداية، وفي النهاية أدركت أني أنا الذي لا يعني شيئا لها!

هي شجيرة قتاد لاطئة بالأرض، من بنات جنسها المتناثرة على ملتقى خط الدامي بإيگيدي، بحيث صافح مركز تگند مقاطعته الأم. نزلنا عليها فلم تؤذنا ولم نؤذها؛ بل تركناها على قربها. هناك ألقتني الأقدار دون أخذ رأيي فلما ألِفْتُ المكان وألِفني طوحت بي دون استشارتي أيضا.
كنت في شرخ الشباب وميعة الصبا، وكان الزمن خريفا، فكنت كثيرا ما ألقي حشيتي إلى جانبها استرواحا وأسامرها بما شئت من أشعار (غالبا ما كانت للمتنبي) أرفع بها عقيرتي دون حذر، فالتسامح في الشعر الفصيح مختلف جدا عما في الأدب الشعبي. وقد أعد النجوم أرقا، وقد أساهر القمر في صمت، وقد أعود منهكا فأرتمي إلى جانبها دون إنشاد ولا طرب.
كل ذلك حدث، لكنها لم تكن إلا كمحارة بآفطوط، أو كثيب بالعريه، أو حجر في آدرار.. دون خصوصية أي نوع؛ اللهم إلا أن صديقا لي ممن يتصرفون في نومهم بات معي ليلة فاستيقظت وقد حملني (وكان وزني حينها عونا له) وكاد يلقيني فيها! ولست أدري كيف استطعت التخلص منه فسقط إلى جنبها وانتقلت إلى فراشه وأكملت نومي، وفي الصباح لاحظ تبادل موقعينا فأخبرته الخبر فقال إنه رأى في النوم كأنه يرفع صبيا إلى أمه التي استقل بها بعير، فقللت من قيمة مروءته الحولاء وسبَبْته على مذهب الأصدقاء.
غادرت أهلي في نقلة بعيدة، وبعدي غادروا هذا الموضع تاركين به جزءا من ذكريات شبابي، فكان ذلك فراق بينهم وبين الحل والترحال، وحين عدت إليهم وجدتهم قد انتقلوا شكلا ومضمونا عن آخر صورة في ذهني لهم.
شعرت بحنين إلى عهد ولى وقد أدركت أني لن أقرأ من حيث انتهيت، فلم يبق إلا التزود بنظرة لا تبل الغليل، ولكن كيف ومتى؟
بعد تسع سنوات من المغالبة اغتنمت حاجة لو لم تكن إلى مكان قريب من مربع الصبا لما استحقت مني خطوتين؛ أما وهي كذلك فالأمر مختلف. 
في أول مساء لي بالمكان المقصود انسللت بمفردي واتجهت إلى مستودع الذكريات عبر كيلو مترين استبطأت قطعهما شوقا إلى مقصدي.
وجدت البقعة بحالها كأنما تركتها أمس، والشجيرة بقدرها كأنما توقف نموها أسفا على الفراق! وقد أمسكت بإذن كيس بلاستيكي اتخذته الريح نايا لها. اتجهتُ إليها كمن يريد مفاجأة عزيز بنفسه، ولكنها واصلت الاستماع إلى لحن الفراغ دون مبالاة بي! 
عجبت كيف لم تعرفني وأنا الذي طالما أملى عليها رقيق الأشعار وسامرها والقمر، ثم ها هي ذي تناغي الكيس وتستمتع بأغنيته الهوجاء! 
قلت: العذر لها، فلم تعهد في وجهي أية شعرة.
اطمأننت إلى هذه الحجة واستعدت الماضي المشفر باستمتاع كان يمكن أن يطول لولا أن رعدا متجولا في أرجاء الجو أعادني إلى عالم الحس فوجدت نفسي واقفا بين بقايا الربوع أنظر إلى كيس بلاستيكي تعلق بغصن من شجيرة قتاد.
انصرفتُ بسرعة من حيث أتيت متمنيا أن لا يكون قد افتقدني أحد ممن حللت ضيفا عليهم تمويها على مقصدي الحقيقي.