عندما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالهجوم على منزل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في منطقة "أبوت آباد" في باكستان في 2 أيار/ مايو 2011، واغتياله من خلال عملية نفذتها وحدات خاصة من الجيش (وحدة سيلز) والمخابرات الأمريكية (سي أي إيه)، كان الهدف مزدوجا، حيث تقوم وحدة سيلز بتصفيته ثم يعمل فريق السي أي إيه على جمع أكبر قدر ممكن من الوثائق والمستندات، وذلك لغرض دراستها وتحليلها وتوظيفها في سياق "حرب الإرهاب"، ولا جدال بأن "وثائق أبوت آباد" احتوت على قدر كبير وهام من المعلومات التي تكشف عن فهم أفضل لتنظيم "القاعدة" وتطوره الإيديولوجي وبنائه الهيكلي التنظيمي ونشاطه العملياتي العسكري، وبحسب المصادر الأمريكية تمت مصادرة (10) محركات أقراص صلبة، وما يقرب من (100) محرك أقراص صغيرة، و(12) هاتف محمول، بالإضافة إلى مجموعة من أقراص الفيديو الرقمية التي تحتوي على ملفات صوتية ومصورة، وكميات من المواد المكتوبة بخط اليد، فضلا عن مجموعة من الصحف والمجلات.
على الرغم من المطالبات العديدة بتوفير كافة وثائق بن لادن للجمهور برفع السرية عنها، إلا أن معركة الشفافية فشلت في مسعاها، فقد أصبحت وثائق بن لادن مصدرا للتشويه والالتباس والاستغلال والتوظيف، ذلك أن الوثائق باتت سلاحا سياسيا في المزادات الانتخابية الأمريكية، حيث عمدت إدارة أوباما إلى تفتيت بن لادن من خلال نشر وثائقه مجزأة على فترات زمنية متباعدة بهدف إخضاع بن لادن لتقنيات القراءة الانتقائية الاستشراقية الكولينيالية وتوظيفه في لعبة المعرفة والسلطة.
عندما نشرت الإدارة الأميركية الدفعة الأولى من الوثائق عقب مرور عام على اغتيال أسامة بن لادن، على موقع معهد مكافحة الإرهاب في ويست بوينت، تم انتقاء (17) وثيقة بعناية، وذلك قبل ستة أشهر من الانتخابات الرئاسية لعام 2012، حيث عمدت إدارة أوباما على بناء حملة منسقة لإقناع الشعب الأمريكي بأن الحرب الممتدة مع تنظيم القاعدة تتجه نحو نهاية سعيدة، بتفكيك القاعدة وهزيمة أيديولوجيتها والقضاء على أبنيتها الهيكلية، ففي 1 أيار/ مايو 2012، بشر أوباما ناخبيه بلهجة واثقة بالقول: "إن الهدف الذي وضعته لهزيمة القاعدة وحرمانها من فرصة إعادة بناء نفسها بات الآن في متناول أيدينا"، حيث كان مضمون الدفعة الأولى من الوثائق يرسم صورة بائسة لتنظيم القاعدة وصورة بائسة لزعيمه بن لادن، الذي بدا محبطا وحزينا بسبب نجاح سياسات "حرب الإرهاب" الأمريكية، وبروز ثورات الربيع العربي السلمية التي قضت على نهج التنظيم العنيف وأيديولوجيته المتطرفة، حيث ركزت الوثائق المنشورة على محاولة بن لادن التماهي والتكيّف مع عصر الثورة، والتخلي عن استراتيجية مواجهة "العدو البعيد".
أما الدفعة الثانية من وثائق بن لادن التي نشرت في 20 أيار/ مايو 2015، فقد جاءت عقب أربع سنوات على مقتل بن لادن، حيث نشرت وكالة الاستخبارات الأميركية (103) وثائق جديدة منتقاة بعناية فائقة، في ظرف مختلف تماما بعد سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" على مساحات واسعة في العراق وسوريا، وتمدد الجهادية العالمية في دول الثورات العربية المضادة، وبروز نهج جهادي يستند إلى السيطرة المكانية وفق جهاد التمكين الذي يناهض الأنظمة الدكتاتورية المحلية على أسس منظومة أولوية قتال "العدو القريب"، والضغط على الأنظمة الإمبريالية وحرمانها من تحقيق مصالحها الحيوية وإجبارها على القيام بتدخلات عسكرية غير محسوبة بطرائق عديدة، حيث تبدو صورة بن لادن مغايرة في الوثائق الجديدة عن صورته الحزينة البائسة المهزومة في الوثائق السابقة، فهو يظهر كزعيم محبوب وقائد فذ لتنظيم "القاعدة"، يقوم بإدارة منظمة بيروقراطية مركزية متماسكة ويشرف مباشرة على إدارة عملياتها، بل إنه يبدو كمنظر استراتيجي للتنظيم خلال السنوات الأخيرة، كما إنه شخصية "رومانسية رقيقة"، في التعامل مع أفراد عائلته، تكشف عن شخصية حانية وشفافة ومحبة، ونصيحته لـ"المجاهدين" بـ"التخلي عن مشروع إعلان دولة إسلامية (دولة الخلافة)، فبحسب بن لادن المفتت إن "إعلان الدولة الإسلامية قبل استنزاف الكفر العالمي يشبه وضع العربة أمام الحصان".
أما الدفعة الثالثة من وثائق بن لادن فقد ظهرت في 1 آذار/ مارس 2016، حيث نشرت وكالة الاستخبارات الأميركية (113) وثيقة جديدة منتقاة بعناية فائقة، في ظرف مختلف، مع اشتداد الحملات الانتخابية الرئاسية بين الجمهوريين والديمقراطيين، إذ يبدو بن لادن أحد مناصري سياسة الإدارة الديمقراطية للرئيس أوباما، فالوثائق والرسائل والخطابات تشيد بسياسة الرئاسة الأمريكية المتعلقة بالبيئة والمناخ، وفعالية الحرب على الإرهاب عبر الطائرات دون طيار، إلا أن الأهم هو الكشف عن علاقة تنظيم القاعدة بإيران، من خلال التأكيد على أن إيران كانت محطة غاية في الأهمية للقاعدة في الدعم اللوجستي والتخطيط ونقل الأموال، بل والوساطة والضغط على زعيم الفرع العراقي للقاعدة الزرقاوي بتجنب استهداف الشيعة في العراق عقب الغزو الأمريكي 2003، إلا أن بن لادن يكشف عن عدم ثقته بالإيرانيين ويظهر نهجا براغماتيا، ففي أحد الرسائل حول تهديد البعض من قيادات الفرع العراقي بالقيام بهجمات ضد إيران يقول: "إنكم لم تشاورونا في هذا الأمر الخطير الذي يمس مصالح الجميع، وكنا نتوقع منكم المشورة في هذه المسائل الكبيرة، فأنت تعلم أن إيران هي الممر الرئيسي لنا بالنسبة للأموال والأفراد والمراسلات وكذلك مسألة الأسرى"، متسائلاً: "لا أدري لماذا أعلنتم التهديد".
لا شك بأن إدارة الرئيس أوباما تجاول استثمار رسائل بن لادن كحجة سياسية ضد خصوم الإدارة الديمقراطية، اللذين يتهمونها بالضعف والعجز وعدم الإنجاز، حيث يستثمر الظرف الانتخابي بالإشارة إلى أن الإدارة الحالية تمكنت من تحقيق إنجاز مزدوج كبير على صعيد السياسة الخارجية، تمثل بالتوصل لاتفاق تاريخي مع إيران حول برنامجها النووي، وهو الاتفاق الذي أسفر عن تجريدها من إي إمكانية لحيازة سلاح نووي من جهة ودفعها إلى التخلي عن دعم "الإرهاب" وقطع صلاتها المفترضة مع تنظيم القاعدة.
لا تقف عمليات تفتيت بن لادن على العلاقة مع إيران وتوظيفها كإنجاز سياسي للإدارة الأمريكية الديمقراطية بالبرهنة على نجاح أوباما في التخلص من الخطر النووي الإيراني والتخلي عن دعم الإرهاب، بل إنها تحاجج على نجاحها بتحويلها إلى شريك في حرب الإرهاب، ولا تكتفي بذلك فهي تكشف عن رسائل تدفع دول الخليج إلى تبني سياسات أمريكية في تحديد مصادر الأخطار، تحت ذريعة عدم الاستسلام لرواية "الإرهابيين"، حيث اشتملت هذه الخطابات على رسالة اتهم فيها بن لادن حكام دول الخليج بالانصياع لـ"الاستعباد الأمريكي"، خوفا من انتشار نفوذ إيران في المنطقة، محذرا من أن طهران "ستذبح دول الخليج مثل أضحية العيد، تماما مثلما فعلت بالرئيس العراقي السابق، صدام حسين"، إذ هاجم بن لادن دول الخليج متهما إياها بـ"الخيانة والانصياع لإرادة أمريكا"، متوقعا نشوب "حرب عالمية ثالثة بين الشرق والغرب"، موضحا أن "زعيم البيت الأبيض" يُهدد بها المنطقة، مؤكدا أن حكام الخليج مهتمون بهذه الحرب أكثر من اهتمام أمريكا بها، لأنها بالنسبة لهم "حرب مصيرية"، فإما أن يكونوا أو لا يكونوا، وهم يرون مصيرهم رأي العين في الحالتين، على حد قوله.
خلاصة القول أن الإدارة الأمريكية تعمل على استثمار رسائل بن لادن على صعيد السياسات الداخلية والخارجية، وتعمل على نشر وثائق منتقاة بعناية تخدم سياساتها، حيث أصبح العدو الأول خادما للسياسات الإمبراطورية الإمبريالية، فعملية تفتيت بن لادن ماديا قد أنجزت من خلال فرقة سيلز العسكرية، أما تفتيت بن لادن رمزيا فهي عملية لا تزال مستمرة من خلال عملاء سي أي إيه، وهي تستهدف في قراءتها الأخيرة إقناع الناخبين داخليا بنجاح سياسة الإدارة الديمقراطية في الحرب على الإرهاب، بتحويل إيران من عدو إلى صديق، وترهيب الأصدقاء في الخليج بإمكانية تحولهم إلى أعداء إذا لم ينخرطوا في سياسة حرب الإرهاب بمعناها الأمريكي، فالعدو في الشرق الأوسط هو الإرهاب وهو إسلامي سني حصرا.