1ـ أيُّ دلالة تقف خلف أحداث العنف المتزايدة تحت غطاء مفردات دينية إسلامية، كتلك التي تظهرُ في شكْل حروب طائفية أو تلك التي تأخذ شكل مواجهة مع أنظمة أو مجتمعات “إسلامية” أو “غربية”. تتصارع الآن ثلاث مقاربات على الأقل لتحديد و تفسير ما تراه الأسباب الفعلية لهذه الأحداث وتناميها.
ـ2ـ
أكثرها حضورا في الخطاب السياسي والإعلامي ولدى “الخبراء” المرتبطين بهذا الخطاب هي مقاربة الحتمية الثقافية. تَرى هذه المقاربة في الثقافة الدينية أو في التاريخ الثقافي السياسي للمسلمين ما تعتبُره مفتاحَ قراءة كافيا بنفسه للكشف عمّا تراه صيرورة محسومة الاتجاه سلفا في صلب الفعل المسلم. تفتَرض ضمنيا أن الإشكالية تَكمن في المسلم من حيث هو مسلم لأنه مسلم. هذه المقاربة الأولى تستفرد إلى حد كبير بالخطاب السياسي الإعلامي المهيمن (من تصريحات دونالد ترامب إلى غلاف أسبوعية ماريان : “من الأمويين إلى داعش : الإسلامية عدونا”). لا تسْتفرد به فقط في أمريكا والولايات المتحدة و لكن أيضا لدى جزء من النخب السياسية الإعلامية في الدول العربية وفي بعض الدول الإسلامية الأخرى. التفسيرات الثقافوية وأحيانا العرقوية الأكثر انغراسا في الموروث الإيديولوجي للقرن التاسع عشر الأوربي تستعيد هكذا بمستويات معتبرة حضورها. والواقع أنّ مقاربة ( أو مقاربات) الحتمية الثقافية قد وجدتْ في العالم الاسلامي عددا كبيرا من المتبنين منذ ما سُمي بالنهضة إلى الآن. ويجمعها أنموذج الاعتقاد بأن تفسير كل ما يحدث في الحاضر يمكن أن يتم عن طريق استقراء ما يُفترض أنها خريطة أنساق معرفية تأسّستْ في الماضي وأسّستْ لكل ما بعدها. وبالتالي أنها وحدها ما يفسّر ما حدث، ما يفسّر “لماذا تأخّر المسلون”.
ـ3ـ
في مقابل مقاربة الحتمية الثقافوية يصرّ بعضُ باحثي الاجتماع السياسي على أنه يلزم فحص موضوع التطرف الدموي بشكل مستقل نسبيا عن المشكلات الخاصة بالعالم الإسلامي. الحتمية الثقافوية بالنسبة لهم تركز هذيانيا على “راديكالية الأسلمة” بينما يتعلق الأمر على العكس “بأسلمة الراديكالية”. فيَعتبِرُ هؤلاء أن هنالك ظاهرة عالمية معاصرة صفتُها الرئيسة هي الراديكالية العدمية. وأن هذه الظاهرة تُجسّدها في كل مرحلة مجموعاتٌ شبابية “معولَمَة”. وأنها مجموعات رغم عدميتها الطاغية إلا أنها تبحث دائما عن فضاء راديكالية يسمح لها بإضفاء “معنى” على عنفها. يعتبر هؤلاء أن الراديكالية الدينية ليستْ إلا ملجأ مرحليا على صعيد الخطاب يحلّ محل الراديكالية اليسارية السابقة. وأنها تبعا لذلك تمثلُ فقط شكلا أداتيا يتبناه راهنيا “مضمونٌ” مستقلُ عنْه وسابق عليه.
ـ4ـ
وهنالك طبعا ما يعْرف بالمقاربة العالم الثالثية التي ظلّتْ في مواجهة حدّية مع المقاربة الثقافوية. ولكنها أيضا تُناهض بشراسة، خصوصا بعد أحداث باريس الأخيرة، مقاربة “أسلمة الراديكالية”. إنها تعتبر أن الأخيرة تشْترك مع المقاربة الثقافوية في تجاهل المحتوى السياسي لحركات العنف الراديكالي وأنها تغفل السياق الاجتماعي والجيوستراتيجي المؤسِّس للعنف الراديكالي. تـنـْبني المقاربة العالم الثالثية كما هو معروف على أنَّ التيارات العدمية العنفية تصْدر عن مناخ التحديث الرأسمالي. الحداثة الجزئية بهذا المعنى تصبح هي الأصل الأول . يمكن تمييز هذا المقاربة إلى توجهين. أحدهما يُركّز أساسا على التوسّع الرأسمالي و” تداعياته”( الاستعمار واستقطابات الحرب الباردة، والأحادية القطبية و توجهاتها الاختراقية و التفكيك الدولتي لما بعد الاحادية القطبية، وخلق شبكات مافيوية لا دولتية بديلة عن الدول تتعامل بشكل شبه علني مع الشركات المتعدّدة الجنسيات إلخ).
أما الاتجاه الثاني في المقاربة العالم ثالثية فيهتم أساسا بثنائية الارهاب الثوري و الإرهاب الفاشي. الإرهاب الثوري يعود في جذوره إلى الثورة الفرنسية أي إلى ماعرف بنظام الإرهاب خلال المرحلة اليعاقبية التي تُمثّل أوج الثورة. بهذا المعنى فالعنف الستاليني أو الماوي أو البولبوتي أو العنف الذي عرفتْه الأنظمة العربية اليسارية ليس إلا تطويرا ثخينا لداءٍ أو شرٍّ حداثي دَفعتْه التجربة المعاصرة إلى أقصى ممكناته. وما تسميه الإرهاب الفاشي يصدُر في نظرها عن تشكّل تيارات يمينية طائفية أو شبه طائفية ورثتْ أدوات العنف اليساري ووظّفتْها في أفق أمْثلة الانتماءات التقليدية المتَوهّمة.
ـ5ـ
يبدو الإعلام العالمي وكأنه ينتصر “تلقائيا” لمقاربة الحتمية الثقافوية. ربما لأنها تمنح بمستوى ما فضاءً استقرائيا مريحا خصوصا للمنظومة المهيمنة. بعبارة أخرى فهي تستأثر بالإنشائية الدعائية من حيث إنها لا تسائل الأنساق الضمنية للجيوستراتيجيا الطافحة، لا تسائلُ الإحداثيات المركّبة لهذه الجيوستراتيحا المتعلقة بالمصالح الاقتصادية و المسؤوليات السياسية والدولتية المحايثة. عبر هذه الحتمية المفتَرضة تحاول المقاربة التي تتبنّاها أن تعمّم دعائيا، من حيث هي، أن كل الخراب السياسي والاقتصادي والأمني و كل العبثية الدموية المتصاعدة كانت مسجلة منذ عقود في جينات الأنساق المعرفية السائدة. وأن ما يجري حاليا مستقلُّ في جوهره عن المسؤوليات السياسية للقوى الدولية والإقليمية. فالحتمية الثقافية تُعفي الخيارات والمطامح والسياسات والتخطيطات الاستراتيجية من أي دور سببي فاعل. أي أنها تعفي الدول العربية والنخب التقليدية أو “الحديثة” المرتبطة بها ومعها طبعا القوى الكبرى من أي مسؤولية حاسمة عن هذا التحول العبثي و هذه العدمية المتصاعدة.
* مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل