يصدق فينا تماما ما ذهب إليه د. زهير الخويلدي حين يقول إنه يتبادر إلى الأذهان أن النخبة هي كتلة متجانسة من الكائنات العاقلة وأنها تحتل قلب الأحداث ومركز القرار وتوجد في البنى الفوقية وعلى رأس المؤسسات والأحزاب والهيئات وأنها تمنح الدول الاستمرار وتحافظ على ذاكرة الشعوب وتلاحم المجتمع وصلابة التقاليد وتتمسك بسيادة الوطن وتعتز بالهوية. وتتوزع بين الاقتصادي والاجتماعي وتنتقل بين السياسي والنقابي والحقوقي وتتبادل الأدوار مع المجال الإعلامي والمجال الثقافي وتتحكم بصورة مستمر في التنظيم الإداري والنشاط الأكاديمي في الجامعات.غير أن كل هذه التصورات مجرد انتظارات لا تأتي وأماني لا تحقق على صعيد الواقع، فنحن أمام نخبة مفككة يكثر فيها اللف والدوران، وتتشكل من كتل متحولة تعرف الكثير من الذهاب والإياب، والمنسوب القيمي الذي تمتلكه يشهد بدوره الكثير من الصعود والهبوط وقد أدى ذلك التخبط إلى هروب من الحرية والوقوع في نية سيئة تظهر في صورة التباين بين الأفكار والأقوال والأفعال والفجوة بين التنظير والعمل.
و في الندوة القيمة التي نظمها المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية بالتعاون مع "كونراد أدنوير استفتكغ" و حملت العنوان الشائك "تحديات الاستقرار و متطلبات التنمية" بدا جليا أنه عندما يختلط السياسي بالعلمي أثناء أداء النخب فوق منابر التوصيل و التنوير فلا سبيل إلى الإفلات مطلقا من اختلاط الأوراق و انسداد الآفاق أمام التوصل إلى ما يرضي وعي الأمة بقضايا و استشراف حلولها ضمن توجه إلى رفع تحديات تطور البلد.
و مرة أخرى لم تبن النخبة من المحاضرين الأكفاء و الحضور المتنور عن تماسك و ضبط نفس أمام سيل مثاليات التنظير و طوباوية الحلول، عن قدرة على الاستنتاجات الموضوعية التي تفتح الباب أمام تصور موضوعي و عملي لحلول تفي بالمطلوب في وجه التحديات التي تجعل البلاد و رغما عنها في مهب ريحين عاتيتين لا تحسن المواجهة معهما الدول الخائرة عزائم النخب و العاجزة قياداتها السياسية عن إدراك مدى مخاطرها المحدقة و ذلك من عجز فكري و ضعف تشخيصي و قصور تخطيطي و غياب استشرافي و هوان أدائي ميداني في ساحة البناء التنموي؛ تلك الساحة الصارخة بتناقضها المشين:
ـ غنى معتبرا بالثروات المتنوعة و المقدرات الكبيرة،
ـ و فقرا مدقعا في أوجهه من غياب للبنى التحتية و ضعف في التغطية الصحية و قصور تعليم و هشاشة اقتصاد مفتقد إلى الأسس و القواعد الراسخة و انعدام علامات و أسس التصنيع أو التحويل المؤمن للتشغيل و الضامن للحضور في أسواق التبادل و التكامل و التبادل التكنولوجي في أبسط مراحله حتى.
و هي النخب الفكرية و العلمية الموريتانية التي ما زالت عاجزة ـ بفعل عقلية متحجرة ابتعدت عن مآثر الماضي و أبقت على أسوء ما فيه ـ عن إدارة التنوع الثقافي والسياسي والعرقي في البلد في ظل دولة وطنية آمنة ترعى حرمة البلاد و تصون حقوق العباد. و أما أزمة هذه النخب و خور البرامج التنموية فمسؤولية الأحزاب والدولة والمجتمع على حد سواء، حيث أن إفراز النخب عملية لا تتعلق فقط بإرادة الأحزاب، بل أيضا بإرادة الدولة نفسها لأنها "ساهمت في إفساد النخب ما أدى بالنتيجة إلى إفساد الحياة السياسية والحزبية، و تقلب الخريطة السياسية وتمييع التعددية الحزبية و تملق المجتمع المدني.
و إن التطورات السلبية المتلاحقة في الحقل السياسي بإدارة النخب قد عززت الأزمة بسبب تعدد وتشعب نماذج السلوك السياسي وتداخلها وفوضويتها أحيانا ما يثبت باستمرار قصور التنظيرات السياسية في الإحاطة بكل الظواهر و السلوكيات السياسية رغم وجود الأحزاب كمؤسسات تعنى خصيصا بهذه الظواهر و لما تزال العلاقات و التضامنات الداخلية للنخب السياسية داخل أطرها و الفكرية و العلمية داخل تشكيلاتها و مراكزها البحثية و تجمعاتها، و من المجتمع المدني بنقاباته و منطماته قائمة على العائلة والقبيلة والطائفة و الاثنية و الشرائحية و قيمها، ما يعني أن ثقافتها السياسية ما زالت تنتمي إلى عهود ما قبل ظهور الدولة الحديثة، و يجعل بالنتيجة الخبرة السياسية لهذه داخل المجتمع ضعيفة لأنها لا تنهض على ثقافة التنوير المُفضية إلى بناء مفهوم "المواطَنَة" التي لا تٌمَيِّزٌ بين الأفراد على أساس انتماءاتهم التقليدية ما قد يعني أن أزمة المجتمع والسياسة في موريتانيا ترجع في أحد أهم أسبابها إلى مشكلات النخبة وأزمتها من حيث النشأة والتكوين والأداء العام.