المتنقل بجهاز التحكم بين القنوات العالمية من عديد دول قارات العالم لا بد أن يسترعي انتباهه و يشد ناظريه و يدغدغ أحاسيسه المصابة رغما عنه ببعض التبلد ما تشهده ساحات كل بلدان هذه القنوات من أنشطة ثقافية راقية و تحولات علمية هائلة و انسجام متقن بين الحركة و الخلفية حتى لكأن المشاهد قطعة جميلة من النور والشعر وتناغم اللون رَسَمها لَوحة مبتكرة من خيوط الطبيعة الغناء الفنانُ الأمريكي توماس كول. و هي لا شك صور ناطقة أيضا برهافة حس شعوب تلك البلدان و قدرتها على السعي بجدارة إلى موازنة أبعاد العمل و الإبداع مع غايات السعادة و الرفاهية و البناء المرجوة.
و لا يخفى الحضور الشعبوي المكثف في هذا الحراك الذي يجمع بين الجد المنوط بالمعرفة و العلم و التقنيات و بين المتعة المرتبطة بالاطلاع و الثقافة بكل أوجهها و أبعادها الإنسانية شغفا و إحساسا و إبداعا و سموا و تحولا و إنتاجا و مشاركة حتى تجاوزت إلى أبعد الحدود المتاحة منطقيا اعتبارات العرق و اللغات و المعتقدات إلا ما يكون مؤمنا منها عطاء الاختلاف المشروع و الإيجابي في حيز التثاقف و التبادل، لا الخلاف السلبي المفضي إلى الشحناء و التنابز و الشقاق.
و لا بد للمتابع بإمعان، يبرره الاهتمام بالمادة الإعلامية و مسار التحول الذي تمليه حركة العصر، لأداء القنوات التلفزيونية أن يدرك جملة من الملاحظات الهامة و التي منها على سبيل المثال لا الحصر:
· إرادة قوية و شجاعة كبيرة لدى الصحفيين الشباب لإحداث تغيير في الأداء و الإقدام إلى التطرق لمواضيع تهم عملية تغيير العقليات بقدر ما هو متاح لهم من حرية التناول و إمكانية ذلك على أرض الواقع،
· صعوبة الخروج من جلباب اعتبارات الماضي العصية و مراوحة المكان في المعالجات الفاترة من ضعف في التناول و تردد في الاستنتاج المفضي إلى خلق دوافع الإصلاح و التقدم،
· الالتحام مع المواطنين من خلال برامج لا تحفز على التحول أو أنها تشده شدا إلى الماضي في حل من الحاضر الذي يعول عليه لجر العربة إلى المستقبل. و هي البرامج التي إن كانت بحسن نية في مقاصدها ترمي إلى إبراز الخصوصيات الثقافية و التميز الحضاري إلا أنها لا تخدم بمنهجية التناول المتبعة التي يضيع معها الوقت الثمين ذلك المنحى، تجذر "الماضوية" السلبية بشقيها التمجيدي و التمييزي من جهة و تغيب أفق التحول الحاصل بالالتحام مع جوانب العولمة المشعة و البناءة، من جهة أخرى.
و أما النخب السياسية فلا اعتبارا تصوغه متمثلا في برامج عملية تهتم بالمواطن، تكونه و ترسخ فيه قيم حب و بناء الوطن و توطيد لحمته و تفجير طاقاته الخلاقة و قدراته الكامنة و مواهبه، و لا حوارا بناء يتمحور حول قواسم الوفاق و البناء المشتركة ترجوه و تسعى إليه الأطراف السياسية إلا لدوافع الوصول إلى الحكم غاية و نهاية؛ نخب سياسية أوقعت المواطنين بين فكي الاعتبارات الماضية التمجيدية و التفاضلية في ضعف الخطاب العصري، و التهميش الفعلي في دائرة غياب العمل الحزبي التحسيسي و التهذيبي و التأطيري و العمل الميداني البناء.
و هو المواطن الذي يستغل فقره و تهميشه و غيابه عن معادلة تنموية بشرية ناجعة مجتمع مدني غير منظم و لا معد الأطر للإسهام في بناء الكيان ليجني أفراده بعض فتاة و حطام مال الدولة و مساعدات الخارج في سياقات التعاون الدولي. حقيقة مرة أخرى تضعف و البلد و تحكم عليه بالتخلف و الزحف في مؤخرة الركب الأممي من خلال إهانة المواطن و سلبه دوره الجوهري، علما بأنه ما لم تكن هناك قناعة تامة لدى النخبة السياسية و الثقافية و من المجتمع المدني و القيادات الحاكمة بأن المواطن هو أهم موارد الدولة ورأسمالها الحقيقي فلن يستطيع أي مجتمع أن ينهض، لا ثقافيا ولا صناعيا ولا في غير ذلك حتى لو كان البلد يمتلك أهم الموارد الطبيعية و موروثا ثقافيا معطاء و تاريخيا مشرفا، و يظل ينعتها العالم من حولها بالتخلف إذا لم تكن هناك برامج حقيقية لتطوير وعي المواطن و توجيهه واحترامه واعتبار خياراته و إشراكه في القرارات التي تهم مجتمعه و ما يترتب على تقدم وطنه.
إن مالي و السينغال دولتان لا تملكان موارد طبيعية و بهما كثافة سكانية معتبرة نسبيا، و موريتانيا تمتلك الكثير من الموارد الطبيعية لعدد قليل من السكان، تتمتع بموقع استراتيجي وتمتلك سجلا تاريخيا لامعا و ناصعا في شبه المنطقة و امتد إشعاعه حتى المشرق العربي و أوروبا.
و حيثما أن هاتين الدولتين قد باشرتا عمليا و منذ أمد نهضة عملية تجسدت على أرض الواقع في إرساء صناعة تحويلية قاعدية لمواردهما المحلية و قد نالتا استقلاهما مع جارتهما موريتانيا في نفس الحيز الزمني و من نير نفس المستعمر الفرنسي.
فبمجرد النظر إلى ما وصل إليه هذان البلدان تبرز للمهتم نقاط استفهام عديدة أمام حول الأسباب التي منعت موريتانيا من الوصول إلى نفس المستوى علما بأنها الأكثر موارد، و أسئلة كذلك حول أسباب التراجع منذ العقود الثلاثة الأخيرة و الإصرار الشديد على ذلك في ظل الانصياع المرضي وراء عقلية النهب و الاحتيال و إدمان الكسل الميداني و انحسار الصراعات المحمومة من أجل الوظائف التسييرية الكبرى على خلفية كل الاعتبارات ـ التي لا يراد لها تحايلا أن تكون بارزة ـ التي لا تلائم مطلقا مفهوم الدولة الحديثة و لا تحارب اختلالاتها أو تدعم استقرارها أو تعمل على بنائها و توجيهها نحو دولة المواطنة و القانون.
والسبب أن سلطات و أحزاب و منظمات المجتمع المدني في هاتين الدولتين احترمت جميعها و منذ استقلالهما مواطنيهما وآمنت بهم، و أما في موريتانيا فإن المواطن ظل مطية:
· الساسة الأنانيين المتوجهين نيل السلط بكل الوسائل،
· و المثقفين القابعين في بروجهم العاجية المتواطئ أغلبهم مع كل السلك التي تعاقبت و المقصرين في حق مواطنيهم،
· و العقلية المتخلفة و الجامدة،
· و المجتمع المدني النفعي الربحي،
· و المفاهيم الرجعية القديمة المفترسة،
· و الكسل المزمن في عصر الاختراعات المعجزة و القناطر المعلقة و البروج العالية و غزو الفضاء،
عوامل و أسباب جعلتهم مجتمعة أبعد ما يكونون عن العمل و الخلق و الابتكار و الإبداع و رفع التحديات الجسيمة.
حقيقة بطعم العلقم تنخر كيان هذا البلد الهش بتناقضاته الصارخة و رفض أهله المزمن الانصياع لمتطلبات العصر و عزوفهم عن الأخذ بأسباب الخروج من مثلث التخلف الثقافي ـ السياسي ـ التنموي الجاثم على الواقع و إهمال التنمية الصحيحة بالفعل الميداني للإنسان الذي هو الثروة هذا البلد الحقيقية.