طالعتٌ يوم الخميس في عدد من المواقع خبرا مثيرا يتعلق برفض المجلس الدستوري لمقترح للحكومة كان قد صادق عليه البرلمان في دورته الأخيرة، وهو المقترح الذي يقضي بتجديد مجلس الشيوخ على مراحل. المجلس الدستوري طالب بتجديد مجلس الشيوخ دفعة واحدة، وهو ما سيلزم الحكومة أن تصدر
قانونا تنظيميا جديدا يكون مطابقا لهذا القرار.
وفي اليوم الموالي، أي في يوم الجمعة، طالعتُ في المواقع خبرا آخر لا يقل إثارة عن الخبر الأول، ويتعلق الخبر هذه المرة بإيقاف الأمين العام لوزارة الداخلية من طرف شرطة الجرائم الاقتصادية.
القراءة الأولى للخبرين:
وهذه قراءة متواترة عند الموالاة، وتقول هذه القراءة بأنه لا شيء يثير الاستغراب في الخبرين، فنحن نعيش في دولة دستورية، ولذلك فلم يكن مفاجئا أن يرفض المجلس الدستوري مقترحا حكوميا، ولا أن يحكم بعدم دستورية الوضعية الحالية لمجلس الشيوخ. أما بالنسبة للخبر الثاني فإن أصحاب هذه القراءة يقولون بأننا نعيش في بلد يحارب الفساد، ولذلك فلم يكن من المفاجئ أن يوقف موظف برتبة أمين عام لوزارة، وأن يحال ذلك الموظف إلى التحقيق بسبب تهم تتعلق بالفساد وبتلقي رشا أو رشاوى أو رشوات ( كلها صحيحة، والمفرد هو رشوة بفتح وبضم وبكسر الراء).
هذه القراءة المتواترة عند الموالاة لا يمكن أن يصدقها إلا السذج من الناس، فنحن لا يمكننا أن نفسر اعتراض المجلس الدستوري بالقول بأننا نعيش في بلد يحترم الدستور، فلو كنا نعيش في بلد يحترم الدستور لما بقي مجلس الشيوخ الحالي حيا يرزق لعشر سنوات، ولما زاد على مأموريته الدستورية بمأمورية ثانية دون أي تجديد، لا جزئي ولا كلي.
أما فيما يخص إيقاف الأمين العام لوزير الداخلية فإنه أيضا لم يكن بسبب محاربة الفساد، والأدلة كثيرة على ذلك، ولعل من أهمها:
1 ـ أن الحديث عن فساد الشركة البريطانية، واتهامها بتقديم رشاوى ليس بالجديد، وقد سبق انتخابات 23 نوفمبر 2013، ومع ذلك فقد أصرت الحكومة الموريتانية أن تتعاقد من جديد مع هذه الشركة ذات السمعة السيئة.
2 ـ رغم اتهام وإدانة هذه الشركة من طرف القضاء في بريطانيا منذ فترة إلا أن ذلك لم يجعل الحكومة الموريتانية تقرر إيقاف الأمين العام لوزارة الداخلية، والذي كان قد تم اتهامه من طرف القضاء البريطاني في هذا الملف.
3 ـ لم يجرد مجلس الوزراء في اجتماعه الأخير الأمين العام لوزارة الداخلية من وظيفته، وهو ما يعني بأن الحكومة الموريتانية لم تكن تفكر ـ وحتى يوم الخميس ـ في إيقاف الأمين العام لوزارة الداخلية، ولكن أمرا ما طرأ بعد اجتماع الوزراء جعل الحكومة الموريتانية تقرر في الساعات الأولى من صبيحة الجمعة إيقاف الأمين العام..فما هو هذا الطارئ الذي استجد بين مساء الخميس وفجر الجمعة؟
4 ـ لو كانت القضية تتعلق بمحاربة الفساد لسارعت الحكومة في فتح تحقيق في قضية فساد أخرى، شغلت الرأي العام في الأيام الأخيرة، وكان ضحيتها فريق مدرسة نسيبة رقم 1. لستُ من الذين يعتقدون بأن فريق نسيبة 1 قد تم إقصاؤه لدوافع عنصرية، وإنما هي قصة فساد، وكان يجب أن تبقى كذلك، ولو أنها بقيت كذلك لنالت تعاطفا كبيرا. هناك كثيرون أرادوا أن يشاركوا في الاحتجاجات المنددة بإقصاء هذا الفريق، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك بسبب إن الاحتجاجات رفعت شعارا يؤكد بأن الإقصاء كان لأسباب عنصرية ( لن يغيروا بشرتهم). ذلكم قوس كان لابد من فتحه بعد أن جاء ذكر فريق نسيبة 1، وسأغلقه الآن.
القراءة الثانية: وهذه قراءة شهيرة عند طائفة من المعارضة
تقول هذه القراءة بأن الحكومة سارعت بإيقاف الأمين العام لوزارة الداخلية في عملية استباقية تهدف إلى إغلاق هذا الملف بأقل خسائر ممكنة، وذلك بعد أن أوصل القضاء البريطاني هذا الملف إلى مرحلة حرجة جدا قد تتسبب في ضرر كبير للسلطة الحاكمة في موريتانيا. هذه القراءة تقول بأن هذا الملف لا يختلف كثيرا عن ملف المخدرات، والذي سارعت الحكومة إلى غلقه بسرعة مخافة أن تتطاير شظاياه فتصيب عددا غير قليل من رجالات السلطة الكبار.
القراءة الثالثة: وهذه قراءة شهيرة عند الكثير من بسطاء الناس
تقول هذه القراءة بأن هذا الملف لا يختلف عن غيره من الملفات والفضائح، وأنه يدخل في إطار سوء الطالع الذي يعاني منه النظام في هذه الفترة التي شهدت ظهور الكثير من الفضائح المتزامنة، والتي لن يكون آخرها هذا الملف، ولا ملف المخدرات، ولا فضيحة نسيبة1، ولا غير ذلك من الفضائح التي طفت على السطح في الفترة الأخيرة.
ملخص قول أهل هذه القراءة هو أن الحظ كان قد ابتسم كثيرا للرئيس الحالي في بداية وصوله إلى حكم، وأنه الآن ـ أي الحظ ـ قد بدأ يكشر في وجه هذا الرئيس.
القراءة الرابعة: وهي قراءة عند طائفة من الشباب المعارض
تقول هذه القراءة بأن النظام كثيرا ما يتعمد فتح ملفات جديدة من أجل لفت الاهتمام عن ملفات أخرى قد تكون أخطر. ويقول أصحاب هذه القراءة بأن فتوى المجلس الدستوري، وإيقاف الأمين العام لوزارة الداخلية تتنزل في هذا الإطار، وأن القصد من كل ذلك هو إشغال الرأي العام عن هذه الموجة الاحتجاجية التي ظهرت في الفترة الأخيرة، والتي كان من أبرزها حراك "ماني شاري كازوال"، وهو الحراك الذي قد يتسع ويتمدد في الأيام والأسابيع القادمة، وهو ما يعني بأن التشويش عليه قد يكون من أهم أولويات السلطة الحاكمة في هذه الفترة.
القراءة الخامسة: هذه القراءة لا تخلو من ذكاء، ولكنها مع ذلك قراءة شاذة
تقول هذه القراءة بأن تزامن اعتراض المجلس الدستوري على قانون تجديد مجلس الشيوخ على مراحل مع وتوقيف الأمين العام لوزارة الداخلية، لم يكن تزامنا بريئا، حتى وإن كان إيقاف الأمين العام لوزارة الداخلية قد جاء نتيجة لتحقيق قامت به محاكم بريطانية، ودانت بموجبه الشركة التي تولت طباعة الأوراق الانتخابية في موريتانيا فيما بين العام 2006 والعام 2010.
إنه ليس بمقدورنا أن نصدق بأن المجلس الدستوري، وبتشكيلته الحالية، يمكنه أن يعترض على مقترح حكومي قد صادق عليه البرلمان ما لم يكن قد تأكد بأنه هناك رغبة سامية ترى بضرورة الاعتراض على ذلك المقترح، والذي قد يتسبب الاعتراض عليه دخول البلاد في "فراغ تشريعي".
إن هذا الاعتراض قد يحمل في طياته رسالة سياسية مشفرة مفادها بأن هناك استعدادا لدى السلطة لإلغاء البرلمان بغرفتيه، والمجالس البلدية، وتجديد الغرفتين دفعة واحدة. أما الرسالة السياسية التي يمكن التقاطها من الخبر الثاني فتقول بأن السلطة قد أرادت بهذا الاعتقال وبما سيتسبب فيه من تداعيات التشكيك في شرعية كل المجالس والغرف المنبثقة عن الانتخابات الماضية، فأن يعتقل الموظف الممسك الأول بملف الانتخابات في وزارة الداخلية بتهم تتعلق بالفساد وبتلقي رشاوى فلا شك أن ذلك سيهز من مصداقية كل المجالس والغرف المنبثقة عن الانتخابات التي تم تنظيمها في العقد الأخير، خاصة إذا ما علمنا بأن سمعة تلك المجالس والغرف كانت في الحضيض حتى من قبل هذا الاعتقال، فأي مصداقية ستبقى لتلك المجالس والغرف من بعد هذا الاعتقال؟
إن ما يمكن أن نخرج به من هذه القراءة الشاذة هو أن السلطة، ولغرض ما، قد أصبحت تفكر وبشكل جاد في إجراء انتخابات تشريعية وبلدية سابقة لأوانها، ولذلك فكان لابد لها من هذا الاعتراض الدستوري ومن اعتقال الأمين العام لوزارة الداخلية، والذي يكفي اعتقاله بتهم تتعلق بالفساد للتشكيك في انتخابات 2009 و2013 وما ترتب عليها من نتائج.
حفظ الله موريتانيا..