"شر البلية ما يضحك" غالبا يتأكد لدى الكثيرين ممن يتابعون على القنوات التلفزيونية الأشرطة الوثائقية البديعة ذات الطابع التقني و العلمي و يدرك حتما أن الوقت عند الشعوب المتقدمة في جميع القارات لا يذهب سدى و أن العقول هناك لا تعطل عن العمل الجاد و الابتكار.. وقت محتوى كله داخل رزمة الزمن الشامل ليتم استغلاله كل لحظة تلو اللحظة الموالية بإيجابية مطلقة تنسحب على جميع الأمور و في كل مساحة المكان.. و عقلٌ مُقدر العطاء بالتوفير له كل الوسائل إلى ذلك حتى يكون ذاك العطاء بقدر تحرره و طموحه و عمله إبداعا و اختراعا و تجسيدا و تطويرا و تعميما لتحسين الأداء في الحياة بشمول معانيها و سائر مضامينها و متنوع متطلباتها.
و لما كانت إحدى القنوات العالمية تعرض شريطا وثائقيا يحكي تفاصيل عملية إنقاذ نوع نادر من السلاحف البحرية يتهدده الانقراض، فقد ظهر عظيما ذاك المجهود العلمي المضني الذي ظل يبذله فريق العلماء على فترة ناهزت عاما كاملا، كما كان من الروعة بمكان ذلك "الأكواريوم" أو الحوض المائي الهائل الذي تم بناؤه و إعداده ليحاكي بدقة متناهية بيئة المحيط المائية الطبيعية و قد جُهز بمتطلبات الرقابة و المتابعة العلمية للأسماك و السلاحف و غيرها من نباتات القاع طحالب و ما عداها في تفاعلها جميعا بداخله.
هو مثال ترسله القنوات للكشف عن حيوية الشعوب الواعية و اختيارها نهج تحرير الطاقات و اندماجها مع المضمون العلمي للوجود و ما يحققه من :
· تصالح مع المفهوم الإنساني المبني على حيوية العقل الآمر بفعل البناء،
· و طلاق نهائي مع الاعتبارات التقسيمية المقيدة للمد العقلي و المقلصة مضمار العطاء عند المجتمعات داخل حيزها الترابي المشترك،
و أن الاهتمام بالمحيط الترابي و بيئته في تنوعها هو وعي متقدم حققته هذه الشعوب بعدما أرست قواعد التقييم على أسس القدرة على استيعاب و موازنة كل الأدوار المنوط بها قيام الدولة الصحية القادرة على الرسوخ و البقاء.
و أما أن تظل الرؤوس مدفونة في التراب و النفوس مفتوحة على شهوة الاغترار بأوهام النرجسية العبثية ـ القابعة وراء أستار النكوص إلى الأعقاب ضمن مفاهيم بالية و نفسيات غير سوية بحكم تولي زمن تلك الاعتبارات و التحول الهائل في العقليات الذي حمله المنعطف الزمني الجديد ـ فإن ذلك يعني التمادي في خيار شل المسار و خسارة التحول إلى الدولة السوية التي تنبني على أركان المساواة في الحقوق و الواجبات بجوهر المواطنة قاسما مشتركا و الديمقراطية حزاما مؤمنا.
و لأن جميع المؤشرات و الدلائل القائمة، في ظل غياب إرادة الجميع الفاعلة، تشير إلى بعد قيام هذه الأركان، فإن الأمل لإحداث أي تحول في العمق يظل على الأرجح ضعيفا أو حتى بعيد المنال. حقيقة مرة تخفيها عن الإدراك الواعي مظاهرُ خداعة من الحراك باتجاه المدنية و علامات باطلة من الاصطفاف إلى مفاهيم الحداثة و الاستسلام الأرعن لوهم الأخذ بها دون تجاوز النظري فيها إلى تحقيق التطبيق، إذ أن مؤشر النجاح عند الشعوب المتحضرة الواعية هناك ما زال يغرق الناس هنا في الضحك حيث أن مثل حماية السلاحف من الانقراض ترف صبياني و مضيعة للوقت الذي يبذله العلماء و هدر للأموال التي تصرف من أجله.. حقيقة مرة كذلك تكشف عن البعد مئات السنين الضوئية عن لب العصر و نقاء مستوى فهم أسباب البقاء المتوازن فيه، و قديما قيل شر البرية ما يضحك، مثل يضرب لمن تصيبه الشّدائد والمصائب في غير وقتها فيضحك منها.
فلا الوقت مواتيا للضحك من أرقى نتائج التوازن بين نقاء العقل و إفرازات المخيل و جمال صنع الحاضر و صفاء صورة المستقبل، و المكان مناسبا أيضا لما ينضح به من علامات التخلف الثقافي و الانحسار الفكري و انتشار الغبن و الحيف و التباين بين الناس و غياب بنية التحضر التي تمتص بديناميكيتها شوائب الحراك الأعرج و غياب رغبة الخروج من بين براثين التخلف و الظلامية إلى أضواء المدنية و معارفها المحررة للطاقات و الباعثة على العطاء.