يتطلع الموريتانيون بشغف وتفاؤل إلى مابعد فاتح أغسطس المقبل ، وتنصيب الرئيس المنتخب لمأمورية دستورية ثانية وأخيرة ، وتأسيسا على خطابات الحملة ورهانات المرحلة باتت سقوف التطلع والتوقع عالية ، فثمة نزوع قوي واستقراء يقيني يركن إلى أن مابعد فاتح أغسطس لايمكن - البتة - أن يكون مثل ما قبله.
وفي هذا السياق تشرئب أعناق المراقبين إلى تشكيل حكومة قوية من ذوي الكفاءات والخبرات والرؤى ، تمثل الرسالة الأولى للرأي العام الوطني بصدق النية وجدية المسار ، إذ يتطلع الجميع إلى قطيعة سياسية مع الماضى ، وتأسيس "ثوري" لحكامة جديدة قوية وصارمة في تسيير مقدرات البلد وثرواته وأهم ملفاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشائكة ، فالحاجة ملحة - أكثر من أي وقت مضى - إلى استهلال هذه المأمورية بتشكيل حكومة منسجمة ومتماسكة ؛ قادرة على الإنجاز والعمل بروح الفريق ؛ حكومة تخرج من رحم الخطاب السياسي للرئيس وتنبثق من صلب طموحه للوطن ؛ يؤازرها ذراع سياسي فعال يكون بحجم المرحلة ومقاسها ، ومشهد إعلامي قوي يعكس قيمها وخطابها ، ولا مندوحة عن ضرورة انبثاق المشهد الجديد وتخلقه من وحي وعي عميق وتشخيص دقيق للأخلال البنيوية والمشاكل الجوهرية للبلد.
إن بلدنا يمر بلحظة مفصلية وتواجهه تحديات أمنية وتنموية - محلية وإقليمية ودولية ، وتنتظره أجندات سياسية واقتصادية واجتماعية ضاغطة ، فضلا عن الرهانات التنموية والأمنية والمخاطر الجيو - ستراتيجية المحدقة الناجمة عن الوضع الأمني وبؤر التوتر المتفاقم في الجوار الإقليمي جنوبا وشمالا.
وفى ظل هذه الوضعية المحلية والإقليمية والدولية الصعبة ، يتعين في مستهل المأمورية الجديدة -استئناسا بالبرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية- الشروع في إطلاق ورشات سياسية وتنموية واقتصادية تمهد لعمل مؤسسي جاد ؛ يحدث جملة تحولات عميقة وإصلاحات جذرية وشاملة ، وسأعرض في هذا المقال لجملة من الأفكار والمقترحات ، أراها في طليعة رهانات المأمورية ومهمات الحكومة المرتقبة وأولوياتها التي يتعين عليها أن تشرع في صياغة مقاربات ناجعة لتحقيقها ، وبلورة سياسات فعالة لتنفيذها :
- توطيد دعائم مناخ التهدئة السياسية ورأب الصدع ومواصلة العمل على نهج أخلقة المشهد السياسي الوطني ؛ بوصفه أكبر مكسب سياسي تحقق خلال المأمورية المنصرمة ، فضلا عن الحاجة إلى تفعيل آليات التشاور القمين بأن يثمر - في هذه اللحظة الفارقة القلقة - خارطة طريق ناجزة وأجندة توافقية جاهزة ؛ مستجيبة لتطلعات فرقاء المشهد السياسي إلى بناء نظام ديمقراطي صلب وقوي ؛ فاللحظة تاريخية من أجل تجذير خيار النهج الديمقراطي الحضاري ، وتحتاج فقط إلى نخبة وطنية تقود تحولا مجتمعيا ، وتصوغ مشروعا توافقيا لتحديث البلد وتنميته وتقوية حكامته السياسية وبناء قدراته الاقتصادية الذاتية وتعزيز وحدته الوطنية وتماسك لحمته الاجتماعية، بعيدا عن خطاب الاستقطاب ولغة الاحتراب واستحكام العقلية لبراغماتية الساعية لتحقيق مكاسب سياسية آنية.
- العمل على تعزيز الوحدة الوطنية وتوطيد دعائمها ؛ استلهاما وتجسيدا لروح "خطاب وادان" واستئناسا وتفعيلا "لإعلان جول".. بعيدا عن المناكفات والمماحكات السياسية ؛ من خلال إطلاق المشاريع الاقتصادية المعززة للوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية ، وتعميق إصلاح التعليم ، بوصفه المدخل الأوحد والرهان الأوكد لإرساء مدرسة جمهورية موحدة وجامعة يرتادها كل الموريتانيين على اختلاف مشاربهم وتفاوت مستوياتهم ، فضلا عن الحاجة إلى تنفيذ برامج للتوعية الإعلامية والتربية المواطنية ، وتنظيم الندوات والحوارات الجادة حول قضايا الحكامة والإدارة والتنمية ، وإشكالات الثقافة والمجتمع والهوية دون خجل أو وجل.. ودون محاذير أو تابوهات ، وأنا على يقين بأن الاختلاف الخلاق !..هو الذي ينتج الإجماع والاتفاق ، ونحن بكل مكوناتنا الاجتماعية وتنوعنا الثقافي لدينا ثوابت دستورية صلبة ومتينة لبناء دولة وطنية مدنية معاصرة وقوية.
- ويبقى الرهان الأكبر والأخطر هو العمل على تكريس قيم دولة القانون ، عبر تجسيد استقلالية القضاء وتعزيز حقوق الإنسان ، وترسيخ العدالة والحريات الأساسية وإرساء مبادئ الحق والمساواة ، من خلال قضاء مهني عادل ونزيه ، يضمن الحقوق ، ويشكل مصدر طمأنينة للجميع في الداخل وفي الخارج ، فإصلاح العدالة ركيزة محورية - لاغنى عنها - لتجذير دولة القانون والمؤسسات ، ورافعة قوية لإرساء أسس التنمية والديمقراطية.
- تفعيل المقاربة الأمنية ورفع مستوى الكفاءة والجاهزية لدى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الوطنية ؛ من أجل مواصلة التصدي الحاسم للجريمة داخليا ، ومواجهة التحدي الخارجي الناجم عن الأوضاع الإقليمية المضطربة في شبه المنطقة بحزم ويقظة وفاعلية ، فلا شيء يعدل مكسب الأمن والاستقرار في منطقة يجتاحها التطرف والإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والهجرة السرية... وغيرها من المخاطر والتحديات الأمنية المزمنة التي تهدد كيان البلدان وتقوض وجوده
- وضع وتنفيذ استراتيجات جادة وفعالة لمحاربة الفقر المدقع ، وتعزيز نهج التكفل بالمعوزين للتخفيف من وطأة الفاقة والغلاء والبؤس الاجتماعي ؛ ويتعين في هذا السياق مراجعة برامج وسياسات "تآزر" وتفعيلها وتنويعها لتصبح آلياتها أكثر نجاعة وسرعة في دعم ومؤازرة الفئات الهشة والمغبونة ، تدعيما وتجذيرا للمكاسب الطيبة المتحققة على مستوى السياسات الاجتماعية ومحاربة الفقر خلال المأمورية المنصرمة.
- ويتعين التأسيس في هذه المأمورية لمرحلة جديدة من محاربة الفساد بلا هوادة ، فمهما كانت وتيرة الأداء والإنجاز وحجم مشاريع الإعمار ؛ فلا تنمية في ظل غياب قيم الحكامة الرشيدة وحسن التسيير ؛ ومعاول الهدم أسرع وأمضى من أدوات البناء ، فلا مندوحة عن القطيعة النهائية مع ممارسات الفساد والزبونية والمحسوبية ، وشن حرب غير تقليدية على كل مظاهر الفساد وأشكاله المقنعة ؛ من خلال انتهاج استراتيجية وقائية استباقية في هذا السياق ، تنطلق من تفعيل أجهزة الرقابة ومتابعتها ، وتكثيف بعثات التفتيش ومضاعفتها ، فضلا عن ضرورة اتباع مقاربة جديدة في التعيينات ؛ عمادها تكليف الأطر الأكفاء الذين هم "مظنة للإصلاح" وإقصاء و إعفاء "أصحاب السوابق" في سوء التسيير ونهب المال العام.
- ومن أولويات ورهانات مأمورية الشباب ، إطلاق نهج جديد في الحكامة ؛ مؤسس على المصالحة مع الشباب وقائم على إشراكه في التسيير وإدارة الشأن العام وصناعة القرار والتخطيط والاستشراف ؛ تحريرا لطاقاته المعطلة وتثمينا لكفاءاته المهمشة ؛ فالبلد بحاجة إلى طموح الشباب المندفع نحو التغيير ورغبته الجامحة في جودة الحكامة وحسن التسيير ، فضلا عن ضرورة خلق ورشات كبرى واستحداث برامج جديدة وفعالة للتشغيل ومحاربة البطالة للحد من نزيف هجرة الشباب وما يترتب عليها من استنزاف خطير لطاقات البلد ومصادره البشرية الحيوية.
- ومن الرهانات الكبرى للمأمورية ضخ دماء جديدة في الجهاز الحكومي والإداري تتمتع بكفاءة عالية ونزاهة مهنية ، متشبعة بقيم الحكامة الجيدة ومستلهمة لمبادئ التسيير المسؤول الشفاف الذي يضمن فعالية ونجاعة أداء المرفق العمومي ، ويكفل ترجمة السياسات والاستراتيجيات الحكومية إلى مشاريع وبرامج ميدانية ملموسة ؛ تستجيب لأفق انتظار المواطن المتشوف والمتعطش لتلبية حاجاته الخدمية الآنية وتطلعاته التنموية المستقبلية.
- والرهان الأهم والأكبر في هذه المأمورية ، يتمثل في وضع رؤية شاملة لإصلاح وتطوير الإدارة وتحديثها ورقمننها ؛ وتقريب خدماتها من المواطنين والقضاء على البيروقراطية والفساد الإداري والرشوة والزبونية ، وتجذير قيم المواطنة وتحرير الموظف العمومي من ربقة الانتماءات الضيقة السياسية والحزبية والاجتماعية والجهوية والعرقية والقبلية ، وتكريس ولائه المطلق لمصلحة الوطن وخدمة المواطن ، انطلاقا من مضامين خطاب الرئيس قبل سنوات أمام خريجي المدرسة الوطنية للإدارة ، حيث عجزت الحكومات المتعاقبة عن استيعاب وتنفيذ رسائل وتوصيات ذلك الخطاب وغيره من الخطابات الحصيفة الأخرى التي عجز الجهاز التنفيذي عن مواكبتها وتجسيدها.
- تكثيف ومضاعفة الجهود الحكومية المبذولة ؛ من أجل مواكبة ودعم المواطنين من المحتاجين والفئات الهشة ومحدودي الدخل باستحداث جملة من البرامج والمشاريع وخلق الفرص المدرة للدخل ، وتفعيل سياسات التشغيل لضمان تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وتحقيق الأمن الغذائي ، والعمل على الحد من إشكالية الغلاء وارتفاع الأسعار ؛ عن طريق تفعيل صلاحيات الآلية الوطنية المستحدثة لهذا الغرض والتنسيق مع الموردين ورجال الأعمال وتفعيل آليات رقابة السوق.
- ونحن قاب قوسين أو أدنى من الولوج إلى نادى الدول المصدرة والمنتجة للغاز ، نحتاج إلى جملة إجراءات تمهد بانسيابية لهذه اللحظة الاقتصادية الفارقة ، فضلا عن ضرورة العمل على خلق بيئة مستقطبة وجالبة للاستثمارات الخارجية ؛ من خلال تفعيل قواعد وآليات الحكامة وإشاعة قيم ومبادئ الشفافية في الحياة العامة ، وتطوير وتحسين المدونة القانونية والترسانة التشريعية والمؤسسية المنظمة لحقل الاستثمار ، نظرا لدوره المحوري في النهوض الاقتصادي وإطلاق قاطرة التنمية ، خصوصا في أفق الوفرة الاقتصادية المرتقبة بعد تصدير الغاز ، والاكتشافات المقدرة لليورانيوم ، والاستثمارات المعتبرة والواعدة للهيدروجين الأخضر.
- ومن أهم رهانات المأمورية التركيز على الاستثمار في قطاعات الثروة المتجددة ؛ بوصفها قطاعات حيوية ذات قيمة مضافة عالية مثل : الزراعة والتنمية الحيوانية والصيد والطاقة ، تأسيسا على دورها المحوري في تفعيل الاقتصاد المحلي ، وتحقيق الأمن الغذائي ، وتوفير الاكتفاء الذاتي ، وخلق فرص التشغيل ، عبر إحداث تناغم بين القطاعين العام والخاص، يتجسد في نسج شراكات عميقة ومثمرة وبناءة.
وعموما فإن الحكومة المرتقبة للمأمورية الجديدة ، سياسية كانت أو فنية.. أو توليفة من رجال السياسة وحملة الرأي وقادة الفكر والتكنوقراط والخبراء والفنيين المتخصصين تنتظرها مهمات ورهانات كبرى ، وتواجهها تحديات وعقبات محلية وإقليمية ودولية عميقة ، وهي مطالبة بالارتقاء بمستوى الأداء والإسراع في وتيرة الإنجاز ، مع قوة الاستشراف ودقة التخطيط وعمق التفكير في برامجها ومقارباتها وسياساتها التنموية ، وهي تراعى في كل ذلك مسارين متوازيين ؛ أولهما منطقه ظرفي آني استعجالي ، وغرضه التخفيف من وطأة الفاقة وشح الموارد وحدة الأزمات الأمنية والتنموية ، وثانيهما منطلقه استراتيجي تأسيسي استشرافي في ضوء الآفاق الاقتصادية الواعدة ، وغايته النهوض والإقلاع بالبلد ، وجعله فضاء للأمن وبوابة للتنمية.
د.محمد ولد عابدين إعلامي وأكاديمي