في عام 1972، وأثناء العطلة المدرسية الشتوية، قررت، بموافقة والدي رحمه الله تعالى، زيارة جدتي "توفه" تغمدها الله تعالى برحمته الواسعة ؛ كان مخيمنا البدوي ينتجع، على بعد حوالي عشرين كيلومترا إلى الغرب من مدينة آمرج، على مرمى حجر من "واد اسبيعي" (وادي الأسود). خلال إقامتي في الحي وفي ليلة شتوية مظلمة، أيقظنا رغاء ثلاثة جمال ينيخها ركابها، مباشرة أمام خيمتنا. بنزول الضيوف، انطلقت طقوس الضيافة البدوية المعهودة أيامها : بدءا بتبادل طويل (جدا!) للتحايا ثم التعارف، ومرورا ببسط الحصائر وتوزيع الوسائد عليها وتحضير "أتاي" (الشاي)، وانتهاء بتناول العشاء، على أن يتخلل كل ذلك حديث ترحيب ومجاملة شبه متواصل... لقد واجهت أهلنا مشكلة حقيقية، حيث كانت كل قرب الماء لديهم ولدى جيرانهم فارغة، إلا من كميات قليلة لا تفي بالمطلوب. في هذه الظروف، لم يكن هناك بد من جلب الماء من بئر "الشعبه" الذي كان يبعد حوالي كيلومتر واحد إلى الغرب من المخيم. في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لم يتطوع أي أحد للقيام بالمهمة الصعبة تلك، فقرر خالي "إسلمو" رحمه الله تعالى جلب الماء بنفسه. لقد عرضت عليه بشكل عفوي مرافقته، وأنا لما أستيقظ تماما(!) ؛ في الصغر، كنت أهوى ركوب الحمير والخيل، وفي حال تعذر دابة، كنت أنطلق مسرعا وأنا أمتطي الجذع المفضل لدي من شجرة "گناته" الأسطورية بآمرج... قبلت دون أدنى تردد اقتراح خالي باعتلاء ظهر الحمار، خلال الرحلة القصيرة صوب البئر. عند البئر، نزلت لمساعدة خالي في تعبئة القربة ماء ؛ لسحب الماء، كان هناك، بشكل دائم، دلو جلدي جماعي. فجأة ، طلب مني خالي أن أمسك الحمار من عرفه ثم اختفى عني في الظلام الدامس. بمجرد بقائي وجها لوجه مع الحمار الهادئ ، شعرت بإحدى حالات الخوف الأكثر شدة في حياتي ؛ لقد كنت أرتعد ذعرا. فجأة، عاد خالي إلى الظهور، وهو يمسك بمعزاة ربطها في أحد أطراف فضفاضته. ودون أن يشرح لي أي شيء، طلب مني أن أمسك المعزاة بيدي الحرة. بينما كنت أهتم بالحيوانين، تمكن خالي، بطريقة ما، من تعبئة القربة بكمية كافية من الماء، قبل أن يضعها على ظهر الحمار، وطلب مني، مرة أخرى، اعتلاء ظهر الحمار، وربط بإحكام عروتي القربة حول خصري. وضع خالي أحد أطراف فصفاضته حول عنق المعزاة ثم غادرنا البئر عائدين إلى المخيم ؛ وبوصولنا، التحقت المعزاة بقطيعها، وانشغل خالي، بمساعدة أشخاص آخرين، بإكرام الضيوف.
في وقت مبكر جدًا من الصباح الموالي، لاحظت وجود حشد على بعد حوالي خمسين مترًا، إلى الشمال-الغربي من خيمتنا، فقررت الالتحاق به لمعرفة سبب التجمهر. لقد كانت دهشتي كبيرة، عندما تعرفت على معزاة الليلة السابقة، ملقاة على الأرض، جامدة!... ولم تترك الآثار على الأرض أدنى شك بخصوص منفذ الهجوم ؛ لقد تعرضت المعزاة للهجوم من قبل اللبؤة الأخيرة في "وادي الأسود"، "التويسنبايت" (الأليفة الصغيرة)، وهو اسم كان يطلقه عليها السكان المحليون، تعبيرا عن محدودية عدوانيتها.
روى خالي للجمع القصة كاملة، بدءا بالأنات الأولى والصياح قرب البئر الليلة السالفة، أنات لخروف ألفته المعزاة واعتادت على إرضاعه ؛ وخلافا لبقية القطيع، صمدت المعزاة في وجه اللبؤة، وهي تصيح بشكل محموم طلبا لتخليص ولدها بالتبني من قبضة الحيوان المفترس. بوصوله إلى مسرح الأحداث، فهم خالي أنه لم يعد بالإمكان فعل أي شيء لإنقاذ الخروف الصغير، وأن الأولوية كانت إنقاذ المعزاة قبل فوات الأوان...
لكن اللغز كل اللغز هو استهداف اللبؤة اللاحق لهذه المعزاة بالذات، وهي وسط قطيع يتألف من مئة رأس، على أقل تقدير! لقد اكتفت اللبؤة بقتل المعزاة، فتركت الجثة كما هي ؛ وحدها قطرات دم صغيرة ونادرة على الأرض، كانت شاهدا على عنف اللبؤة ضد المعزاة...
هل كانت اللبؤة حقودة، على غرار تلك التي اعتدت ليلا على طفل وهو نائم في أحضان والدته وحملته إلى جهة مجهولة، سنوات قليلة قبل ذلك، بالقرب من آمرج، وذلك انتقاما لاختطاف أحد أشبالها على يد أحد السكان المحليين، ولم يتم العثور إلا على قطرات دم نادرة؟...
هل، كما هو الحال بالنسبة لحادثة الطفل، كان لحاسة الشم دور في اختيار "التويسنبايت" لضحيتها؟...
بالنظر إلى عديد الحوادث المماثلة والمتداولة لدى سكان "الحوظ" وقتها، والتي كانت تشي بصراع مرير بين الأسود والبشر للسيطرة على الفضاء والموارد، استخلصت أن الأسود كانت، في أحيان كثيرة، تهاجم بعض ضحاياها عن سبق إصرار وترصد...
عندما أحضر بدوي يدعى "محمد الصغير"، منتشيا، سنتين لاحقا، الكف الأمامي الأيمن ل-"التويسنبايت" لحاكم مقاطعة آمرج، طلبا للمكافأة على قتل آخر ممثلة لما كان يوما مملكة مهابة في "الحوظ"، لم أشعر بأي حماس حيال الحدث، خلافا لرفاقي، تلاميذ مدرستنا الابتدائية الذين ضجوا انفعالا!...