بقرار رسمي من أعلى سلطة في البلاد تم إقرار العام الدراسي: 2014/2015 سنة للتعليم؛ وعلى ضوء ذلك الإعلان استبشرت الأسرة التربوية والأوساط التعليمية بواقع جديد للتعليم في موريتانيا من شأنه أن يضيف نقلة نوعية على كافة الأصعدة خصوصاً فيما يتعلق بالتكوين والتدريب والتأهيل، وتنمية قدرات ومهارات المدرسين بما يفيد في الرفع من أداء المؤسسة التربوية، وكذا تحسين واقع الأسرة التعليمية بشكل عام.
هذا فضلا عن زيادة الفاعلية في الأداء وتطوير نـظم التدريس بوسائل عصرية وكذا تقييم المناهج التربوية واعتماد سياسات ومقاربات إصلاحية ناجعة وفعالة بما يتلاءم مع التطور الحاصل في نُظم التعليم بالدول المجاورة، وكذا إحداث تغيير جذري لواقع التعليم بالبلد يكون كفيلا بتحقيق الأهداف المرجوة واستغلال الطاقات باستثمار فعال في العنصر البشري الذي هو قائد مسيرة التنمية والبناء؛ وبالتالي يكون للعناية بتطوير التعليم والاستغلال الأمثل للطاقات البشرية نتائج مستقبلية إيجابية. ذلك أن التعليم كما يُقال هو: "جواز سفر المستقبل"، كما أن أبناء الوطن هم سواعده وأسسه التي يرسو عليها فلنؤمن مستقبل بلادنا بالعناية بأبنائنا ونرسم لهم معالم واضحة لمستقبل واعد قوامة العطاء المثمر والتواصل الإيجابي البناء.
لكن على العكس من هذه الصورة الوردية الجميلة رافق قرار اعتماد سنة التعليم جملة قرارات ارتجالية منها ما تم العدول عنه مؤقتا دون معرفة السبب كقرار إلغاء مسابقة اكتتاب العقدويين، ومنها ما يمت بالصلة للسياسات العرجاء التي لا تضيف قيمة للواقع التعليمي الذي يتأرجح بين سوء تسيير الموارد البشرية وعدم وضوح الرؤية المستقبلية من قبيل قرار حظر الزّي التقليدي (الدراعة) في مؤسسات التعليم وكذا المراجعة الجزئية لبرامج الامتحانات والعطل الدراسية. وحقيقة الأمر هي أن واقع التعليم في البلاد بحاجة ماسة إلى قرارات جريئة وبناءة للإصلاح تأخذ بعين الاعتبار ضرورة ترميم شامل للمؤسسات التربوية وتحديث البُنى التحتية المدرسية وزيادة طواقم التدريس في جميع مستويات التعليم (الابتدائي، الإعدادي والثانوي، وحتى الجامعي)؛ هذا فضلاً عن الحاجة المُلحة لمراجعة المنهاج التربوي وكذا العناية بتطوير أساليب التكوين المستمر للمدرسين، فلم تشهد سنة التعليم هذه تكويناً عدا الذي أجرى لمديري المؤسسات التعليمية والآخر الذي يتلقاه الطلاب في المدارس المهنية التعليمية بالرغم من أن الوزرة كانت تنظم دورات تكوينية للمدرسين خلال العطل الصيفية لتنمية مهاراتهم وقدراتهم وتمكينهم من الاستفادة من المقاربات الحديثة واكتساب تقنيات جديدة في مجال التدريس مع التحفظ الملاحظ على تلك الدورات التكوينة التي في الغالب ما يستفيد منها أصحاب الشعب العلمية دون شعب الآداب العربية.
والجديد في سنة التعليم هذه أن قراراتها لا تلامس الواقع التعليمي للبلد على ضوء التشخيص السابق ليبقى هذا المصطلح مجرد حبر على ورق أقل ما يمكن وصفة بسنة "التأليم والتسريب!" وهي على رأي المثل الشعبي القائل: (العيطه اكبيره والمِيتْ فار)، على حد المثل العربي القائل: "تمخض الجبل فولد فأراً"، فهي إذن شعارات جوفاء لا تلامس واقع التعليم من قريب ولا من بعيد؛ فمع تدني مستويات التعليم والنقص الحاصل في المدرسين والمعدات اللازمة والضرورية، وكذا الحالة المزرية للعديد من المؤسسات التعليمية بالرغم من التزام الوزارة الوصية باتخاذ إجراءات لازمة لحل المُشكل؛ يبقى واقع التعليم في البلد يرزح تحت وطأة الفساد والتمادي في السياسات الارتجالية التي هي بطبيعة الحال سياسات ممنهجة للتجهيل بدل التهذيب والتدريب!!.
والغريب في الأمر كذلك أن إعلان فرض ارتداء الزي الرسمي جاء بعد الارتباك الذي حصل في إعلان افتتاح السنة الدراسية الجديدة ومغادرة المدرسين في الولايات الداخلية إلى مراكز عملهم وتأجيل الافتتاح بعد ذلك إلى إشعار جديد مما تسبب في معاناة مضاعفة للكثير منهم خاصة أولك الذين لن يتقاضوا رواتبهم إلا بعد حوالي أربعة أشهر، مما يعني اعتباطية القرارات وأخذها دون تمعن وتخطيط مسبق وتأمل ودراسة واعية تأخذ بعين الاعتبار ضرورة تحسين أوضاع المدرسين ومراعاة ظرفهم العامة.
وإذا كانت وزارة التعليم جادة في قرارها هذا كان ينبغي عليها في أول الأول الأمر أن تولي اهتماماً بالزي المدرسي المُوحد للتلاميذ نظراً لما له من إيجابية في غرس قيم الألفة والمحبة والمساواة ليحقق بالتالي انعاكسة على قضية الوحدة الوطنية المجتمعية انطلاق من النشء في الوسط المدرسي، وكذا المساهمة في تكريس مبادئ التربية الوطنية التي بدأت مفاهيمها تغيب للأسف عن الوسط المدرسي. ومن ثم يكون عليها أن تفكر في إبرام عقد مع المؤسسة الوطنية للملابس للغرض ذاته؛ لكن ربما القرار من جهة أخرى يندرج في إطار سياسة "أشغلهم في لأنفسهم" لصرف نظر الأسرة التربوية والأوساط التعليمة عن واقع الفساد المزري والمتردي الذي ينخر جسم قطاع التعليم بالبلد. فلو ألقينا نظرة للتأمل ورصد مكامن الخلل في سنة التعليم الجديدة لتبين لنا من أول وهلة أنها بالفعل ينطبق عليها القول بأنها أحسن ما تكون "سنة للتخريب بدل التعليم" والدلائل على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: بدءاً من عمليات السمسرة في تحويلات المدرسين وانتهاء بالاكتتابات المشبوهة والمُخرِبة لنظام التعليم في موريتانيا والتي باتت – للأسف الشديد- الجديد السمة البارزة لوزارة التهذيب الوطني.
ففيما يتعلق بعمليات السمسرة في تحويلات المدرسين: يشهد واقع التعليم في البلد على الكثير منها، إذ تمارس تحويلات المعلمين والأساتذة بدون رقيب وبطرق ملتوية متعدد (تحت، وفوق الطاولة!!) ودون أن تراعي معايير شفافة وواضحة بالرغم من وجود ترسانة قانونية لمنظومة التعليم بالبلد يتم التغافل عنها تارة؛ وتارة أخرى تجاوزها، ليقع المدرسون ضحية عمليات السمسرة والمتاجرة بالتحويلات بالخصوص أولائك الذين يتفانون في أدائهم الوظيفي في مراكز عملهم بالولايات الداخلية وكذا المناطق النائية من أرض الوطن وبدل مكافئتهم وتحفيزهم يتم تجاهلهم وتوشيح وتشجيع السماسرة والمتاجرين!!.. وتبقى أحلام إصلاح التعليم آمالاً معلقة ومطالب تكرر من حين لآخر.. هي إذن سنة التسريب بدل التعليم.!..
أما بالنسبة للاكتتابات المشبوهة والمُخرِبة لنظام التعليم في موريتانيا: فتحدث خلال مطلع كل عام دراسي على مستوى الإدارات الجهوية ومفتشيات التعليم بالداخل وحتى في انواكشوط، تلك الاكتتابات دون تكوين مسبق ووضع معايير دقيقة وشفافة سواء على مستوى اكتتاب المعلمين أو الأساتذة فمن ما يثير السخرية في تعليمنا أن وزارة التعليم الموريتانية كانت قد قررت منذ سنوات عدم اكتتاب المعلمين بشهادة ختم الدروس الإعداديةDiplôme Brevet) )، لكن الواقع يثبت عكس ذلك بحيث أنه لازالت الاكتتابات تتم في المدن الداخلية بنفس الشهادة بالنسبة للعقدويين، وأحيانا كثيرة بدون شهادة تذكر؛ أي بتحديد المستوى الدراسي وبالقرابة والزبونية، وتارة أخرى من باب فوضوية التعليم –للأسف الشديد- تجدهم مديرين لمؤسسات بها من يعلوهم شهادة من زملائهم المدرسين.. هي إذن سنة التخريب بدل التهذيب.!..
وبالنسبة للمستوى الإعدادي والثانوي سبق للوزارة أيضا أن قررت عدم اكتتاب حملة الشهادات شعبة الاقتصاد لتدريس الآداب العربية والمواد العلمية لكن الواقع أيضا يثبت عكس ذلك!!. فصحيح أن رئيس الجمهورية السيد: محمد ولد عبد العزيز كان وعد في لقاء تلفزيوني له بإجراء مسابقة لاكتتاب المدرسين العقدويين، وذلك على إثر الحديث عن تدني مستويات التعليم ونقص المدرسين خلال زيارة الإطلاع والتفقد الأخيرة التي قادته إلى ولايات الوطن للتعرف على مشاكل المواطنين ومعاناتهم؛ وفي آخر لقاء تلفزيوني له بمناسبة الذكرى الخامسة والخمسين لعيد الاستقلال الوطني في جواب على سؤال متعلق بقرار الاكتتاب صرح الرئيس بأن القرار يعود إلى رُزمة من الإجراءات سيتم اتخاذها بهذا الشأن وستكون ذات نتائج أحسن من ذي قبل.
لكن المفاجئ والغريب في الأمر أن المسابقة لم تجر بل الأمر لا يعدو كونه جعجعة بلا طحين وتلميع وكذبة لا تنطلي على أحد؛ بل الذي حدث هو تنظيم اكتتابات مشبوهة كعادتها سنوياً على مستوى الإدارات الجهوية والمفتشيات في الولايات الداخلية شهدت امتحانات تقويمية رمزية لم تراعي في أغلب حالاتها بشكل دقيق معيار الشهادة والتخصص.. هي إذن سنة للسمسرة بدل الإصلاح.!..
ويبقى لنا في الأخير أن نشير إلى بعض مظاهر الفساد الذي بات ينخر جسم المنظومة التعليمية في البلاد، وذلك فيما يمُت بالصلة لعمليات السمسرة والمتاجرة بتحويلات المدرسين التي أشرنا إليها سابقاً. حيث أنه هذه المرة يتم تطوير تلك العمليات إلى أساليب أخرى وبمستوى أعلى، على مستوى الإدارات الجهوية ومفتشيات التعليم حيث يعلو سقف الممارسة من "السمسرة بالتحويلات" إلى الزبونية أو ما يعرف اصطلاحاً في فقه فساد التعليم في بلادنا بـــــــــِ: (آنفوييه) Envoyer ، وهي عملية يتم من خلالها التستر على مدرسين وإعادة تحويلهم بطرق ملتوية دون مذكرة التحويل، وبدون إشعار الوزارة الوصية، ويتم ذلك عن طريق شطب المدرس من قائمة البيانات أو من على لائحة المدرسين بإدارة جهوية أو مفتشية تعليم معينة، وإدراجه على قائمة بيانات ولائحة أخرى بولاية غير التي كان يدرس بها، وتلك هي سياسة تخريبية أخرى تعود إلى ضعف مستوى المتابعة والرقابة الفعالة وغياب تطبيق أساليب وتقنيات الإدارة الإلكترونية الناجحة؛.. هي إذن سنة لغياب التدريب وفشل التهذيب!!.
هذا فضلا عمليات فساد أخرى تتعلق بتفريغ وإحالة عدد كبير من المدرسين للعمل في الإدارات الجهوية ومفتشيات التعليم والتستر عليهم ليغادروا عملهم في تلك المؤسسات بعد ذلك، إلى مزاولة التجارة والأعمال الحرة مع احتفاظهم بأجورهم ومرتباتهم في ظل الحديث المستمر عن نقص المدرسين؛ كما تطال عملية التفريغ والإحالة أيضا المصالح الإدارية بالوزارة تحت مسميات أخرى من قبيل: (الإعارة وضرورة العمل؛ وهذا فساد من نوع آخر.. فما كل ذلك إذن إلا مجرد ضحك على الذقون وتمادي في إفشال التعليم بسياسات ارتجالية ليس من شأنها إلا تجهيل الأجيال القادمة.!!؛ فإلى متى سيستمر هذا الوضع وذلك الفساد؟.. أما آن الوقت لوضع استرتيجات وطنية لمنظومة التعليم في البلد تكون كفيلة بضمان مستقبل واعد ومشرق لوطننا الحبيب؟.