بين الفينة والأخرى ترتفع أصوات في الدوائر السياسية والإعلامية للجار ذي القربى، تستعيد أحلام التوسع في الجنوب، ضاربة صفحا عما اقتطع من وطنها في الشمال. كانت تلك الأصوات مألوفة، رغم نغمة النشاز في جو العلاقات الأخوية بين الشقيقتين. ولم يكن الموريتانيون يعرونها اهتماما كبيرا لإدراكهم أنها ملهاة يلجأ إليها الأشقاء في حالة الأزمات السياسية والاقتصادية. ومن حسن الجوار أن تخفف عن جارك بما لا يضرك وينفعه. غير أن دخول من ينتسب للعلم، ويرأس منظمة دولية، على خط التباكي على خريطة جغرافية متخيلة يدعو إلى التأمل في أحوال من يخلطون عملا صالحا؛ التفقه في الدين، وآخر سيئا؛ الاشتغال بسياسة الدين بالدنيا. فالريسوني، صاحب "المقاصد" السياسية في كل ما يصدر عن منظمته من فتوى حرضت المسلم على أخيه المسلم، دشن نازلة يجتهد فيها على دق الإسفين بين ثلاثة بلدان متجاورة، ويستأنف القول في أمر قضي، ولو حضر بدأه ما استشير فيه لخروجه عن أصوله ومقاصده..
قد يلتمس العذر لعضو التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين في تقمص الأدوار الشوفينية بعد فشل الخطاب السياسي للجماعة في كل البلدان التي أتيح لهم حكمها؛ في مصر والمغرب وتونس وليبيا. أدرك الريسوني أن "الأممية الإسلامية" تسير، بخطى حثيثة، على درب آلام "الأممية الشيوعية"، فانكفأ إلى خطاب شوفيني يستنسخ أيديولوجيا الأحزاب اليمينية الأوربية الحالمة بامبراطوريات الرومان والوندال... فأي معنى لحديث رئيس رابطة العلماء المسلمين في الجغرافيا السياسية؛ حديث يلغي وجود دولة ذات سيادة يحمل جواز سفره تأشيرة دخولها بصفته أجنبيا، ويقتطع من دولة أخرى منطقة سالت دماء الإخوة عليها، واعترف العالم كله أنها جزء أصيل من الدولة الجزائرية؟ لم يعد للمملكة المغربية مطامع في موريتانيا، ولا في الجزائر، ولا تزال تصارع لإثبات "مغربية" الصحراء الغربية مستخدمة كل الوسائل التي يعيب الريسوني بعضها رغم أن حزب جماعته هو من تولى كبر التطبيع فأخرجه الشعب المغربي من السلطة غير مأسوف عليه.
إذا كان الريسوني قد تطاول على بلادنا، والشقيقة الجزائر، فقد تصدى له إخوان الجزائر بأقسى عبارات الإدانة، فوصموا حديثه بما يليق به: سقطة، وحملوه تبعات قالته. أما إخوانه في بلادنا فقد جاء بيانهم باردا خجولا، فاكتفى بالاستهجان، حسب رواية "أخبارهم". والاستهجان عبارة ضعيفة، في موقف يستدعي القوة والاصطفاف الصريح إلى جانب الوطن. قال في القاموس، استهجن: استقبح. وبذلك يرى إخوان موريتانيا أن تصريح الريسوني الذي يصف بلادنا ب"ما يسمى بموريتانيا"، ويرى وجودها "غلطا"، قول قبيح، خرج عن اللائق المقبول. وتجنب تواصل عبارات الشجب، والاستنكار، والإدانة، مطالبا شيخه بسحب تصريحه، والاعتذار عنه.
و لا يزال غالب قادة التنظيم الدولي عندنا، ومن ضمنهم عضو هيئة علماء المسلمين، المنضم إلى الأغلبية حديثا، على الصامت. ولعلهم مشغولون بتخير العبارات التي لا تُحمل على الذم، ولا تحتمل المدح. عبارات تستعير لغة "جميل" التي تقول "كل شي" دون أن تقول "شيئا". وجوه من اللغة عليها غبرة ترهقها محاولات تجميل المستقبح من القول، ولو كان "قرس"، وتبرير المدان من المواقف التي تتغير بتغير الطقس السياسي...
د. الكنتي