إن مظاهر البذخ والإسراف مذمومة في كل الأوقات وفي كل المناسبات، مذمومة في المناسبات الاجتماعية وفي غير المناسبات الاجتماعية، مذمومة في زمن الرخاء ومذمومة في زمن الشدة والأزمات..إنها مذمومة في كل المناسبات وفي كل الأوقات، ولكنها في زمن الشدة والأزمات قد تتحول من مجرد سلوك مذموم إلى سلوك في منتهى الخطورة قد يهدد تماسك المجتمع وانسجامه.
صحيحٌ أن مظاهر البذخ والإسراف ليست جديدة على مجتمعنا، ولكن الجديد ـ وهذا مما زاد من خطورتها كثيرا ـ أنها أصبحت تنقل عبر منصات التواصل الاجتماعي، وبشكل واسع، فتدخل ـ ودون استئذان ـ على الفقراء في بيوتهم المتواضعة وأكواخهم المتهالكة، ولكم أن تتخيلوا كيف يمكن أن تفعل مشاهد البذخ والإسراف تلك بمشاعر مواطن فقير يجد صعوبة كبيرة في توفير قوت عياله.
لقد أصبح من العادي جدا أن تطالعنا مواقع التواصل الاجتماعي ـ وبشكل شبه يومي ـ بمشاهد من الإسراف والتبذير في غاية السخافة والابتذال، ومن تلك المشاهد رمي رزم وأكوام الأوراق النقدية في المناسبات الاجتماعية أمام أعين كاميرات الهواتف التي تتسابق في تصوير تلك المظاهر ونشرها في مواقع التواصل الاجتماعي، فيشاهدها الجائع الذي لا يجد من المال ما يكفيه لتوفير وجبة طعام، والمريض الذي لا يجد ثمن الدواء، ورب الأسرة العاجز عن توفير مستلزمات الحياة لأبنائه. فأي مشاعر ستتولد لدى فقير جائع أو مريض لا يجد ثمن الدواء، أو رب أسرة لا يجد قوت عياله، عندما يشاهد رزم وأكوام الأوراق النقدية ترمى بشكل هستيري في مناسبة اجتماعية؟
إن مظاهر البذخ والإسراف هذه تتنافى مع قيمنا الدينية، فديننا الإسلامي يحرم الإسراف والتبذير، وكل واحد منا سيسأل غدا بين يدي الله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟
وهي تتنافى كذلك مع القيم الإنسانية، فتصوير مظاهر الإسراف والتبذير ونشرها بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي ليشاهدها الفقير والجائع والمريض الذي لا يملك ثمن الدواء يعد عملا غير إنساني.
كما أنها تتنافى أيضا مع قيم المواطنة، فرمي الأوراق النقدية بتلك الطريقة البائسة هو تصرف غير وطني وغير حضري وغير مدني، ويشكل استهزاءً بعملة وطنية ترمز بشكل أو بآخر لوجه من أوجه السيادة الوطنية.
وأخيرا فإن مظاهر البذخ والإسراف تلك تتنافى مع القيم الأخلاقية، فرمي النقود بتلك الطريقة الوقحة هو تصرف غير أخلاقي، وإذا كان البعض يعتقد أن ذلك التصرف سيرفعه عند أقوام، فليعلم أنه سيخفضه - في المقابل – عند أقوام آخرين، وعند كل ذي فطرة سليمة، ثم إن ذلك التصرف الذي يعد من أسوأ أشكال التبذير والإسراف، سيكسب صاحبه صفة مبذر، وهي الصفة التي ستجعله ـ وبنص القرآن ـ من أخوة الشياطين.
المبكي المبكي - ولا شيء في هذه المظاهر البائسة يضحك - أن بعض " الفقراء" نظرا لما يعانون من عقد، ونظرا لانبهارهم بتصرفات بعض "الأغنياء السفهاء"، والرغبة في تقليدهم، يشاركون هم أيضا في مثل هذه المظاهر السخيفة، فيرمون في المناسبات الاجتماعية نقودا كانوا بأمس الحاجة إليها.
ومن المؤسف كثيرا أن مظاهر الإسراف والتبذير هذه بدأت تظهر حتى في مناسبات العزاء، ولم يعد في كثير من الأحيان يمكن التفريق بين مجلس عزاء ومناسبة اجتماعية، على الأقل، على مستوى الأحاديث، فقد أصبح من ثوابت مجالس العزاء لغو الحديث، والإكثار من الضحك، وكأن الذي جاء للتعزية، لم يأت لتعزية أسرة فجعت في فقدان أحد أفرادها، وإنما جاء لمشاركتها في أفراحها التي تقيمها بمناسبة حدث اجتماعي غير معلن.
إن مظاهر البذخ والإسراف هي واحدة من أمراض مجتمعنا التي عمت بها البلوى، وقد وصل الأمر بالبعض إلى ممارسة كل أشكال التزييف والخداع حتى يحسب عند الناس من المبذرين، والذين هم عند الله من إخوان الشياطين.
ولعل من أغرب ما سمعتٌ في هذا المقام أن البعض أصبح يؤجر عددا من رؤوس الإبل إذا ما كانت لديه مناسبة اجتماعية أو حظي بتعيين في منصب سام، ثم يقوم بتقييدها أمام منزله لعدة أيام ليوهم الناس بذلك أنها جلبت لتنحر، وكل ذلك يفعله بحثا عن تقدير مجتمع لا يقيم وزنا إلا للمظاهر الزائفة والشكليات التافهة. بعد انتهاء عملية الخداع هذه تتم إعادة رؤوس الإبل مع مبلغ الإيجار للمؤجر. لم يعد ينقصنا إلا أن نشاهد لافتات أمام بعض قطعان الإبل كُتِبَ عليها: "مشروع فلان لتأجير أنحاير".
ومما سمعتُ أيضا أن هناك من يؤجر الهواتف الراقية والحلي الثمين لبعض الفتيات ليظهرن بها لساعات معدودة في مناسبات اجتماعية، وعندما تنتهي المناسبة الاجتماعية تعاد الهواتف والحلي لمؤجرها، مع دفع مبلغ الإيجار.
ومن مظاهر الإسراف والتبذير كذلك ما شاهدته مؤخرا في فيديو ترويجي لمجمع تجاري بالعاصمة نواكشوط وصلته كمية هامة من المواد الغذائية
الأوروبية الأصلية للكلاب والقطط. في هذا الفيديو الترويجي تمت دعوة زبناء المجمع من ملاك الكلاب والقطط لزيارة جناح أطعمة الكلاب والقطط في المجمع المذكور لشراء ما تحتاجه كلابهم وقططهم من أغذية أوروبية أصلية !!
يقتات الكثير من الناس هنا على مواد غذائية مزورة، أو غير أصلية على الأقل، وكلاب البعض وقططهم توفر لهم منتجات غذائية أوروبية أصلية!!
إلى وقت قريب كنت أعتقد أن الكلاب والقطط ـ وبما فيها تلك التي تعيش في أحياء راقية ـ يكفيها ما يبقى من بقايا طعام الأسرة، وإذا كان لابد من تبذير وإسراف في هذا المجال، فيكفي أن تقدم لها قطعة لحم. أما أن تشترى لها الأغذية الأوروبية الأصلية من كبريات المجمعات التجارية، فهذا مما لم أكن على علم به.
يمكنني أن أجزم أن أولئك الذين يشترون أطعمة أوروبية أصلية لكلابهم وقططهم لهم أقارب في هذا الوطن هم في أمس الحاجة إلى المساعدة ومد يد العون، فلماذا لم يخصص أولئك المبذرين المسرفين ما ينفقون مال في إطعام كلابهم وقططهم للفقراء في الوطن من الأقارب ومن غير الأقارب؟
فلتنفقوا ـ يا "إخوان الشياطين" ـ أموالكم كيفما شئتم، ولتبذروها تبذيرا، ولكن عليكم أن تعلموا أن تبذيركم سيوثق بالصوت والصورة، وسيعرض عليكم في اليوم الموعود بدقة لا تقاس بدقة كاميرات آخر صيحة من هواتفكم.
فهل من توبة قبل يوم العرض الأكبر؟
حفظ الله موريتانيا...