عبد الباري عطوان
تتدفق الطائرات الحربية الى سورية من مختلف انحاء العالم ولعل الدولة الوحيدة التي لم تساهم حتى الآن في هذا الحجيج هي دولة بنغلاديش، ولا نعرف اسباب هذا “الزهد” من حكومتها في النأي بنفسها عن هذا المجهود الحربي.
الازمة بدأت منذ خمس سنوات سورية بحته محصورة في هدف واحد هو اسقاط نظام الرئيس السوري بشار الاسد من قبل معارضة بدأت مدنية وانتهت مسلحة، ولكنها بدأت تفرخ ازمات اقليمية ودولية قد تنتهي بحروب تنسي الجميع الازمة الاصلية.
***
حتى لا نتهم بالتعتيم، نشير الى ثلاث ازمات بدأت تطل برأسها بقوة، ويمكن ان تتطور الى صدامات دموية تنجر اليها دول صغرى وعظمى:
الاولى: توتر كبير يتصاعد حاليا بين تركيا وامريكا من ناحية، والعراق وايران وروسيا من ناحية اخرى، بعد ارسال اكثر من 300 جندي تركي مدعومين بـ 150 دبابة الى محافظة نينوى (الموصل)، السيد حيدر العبادي رئيس وزراء العراق اعتبر هذه الخطوة استفزازية وانتهاك لسيادة العراق، واعطى تركيا مهلة مدتها 48 ساعة لسحبها، والا فانه “سيحتفظ بحق بلاده في اللجوء الى اي رد ممكن، بما في ذلك اللجوء الى مجلس الامن الدولي، بينما طلبت لجنة الامن والدفاع في مجلس النواب العراقي برئاسة حاكم الزاملي بقصف القوات التركية “الغازية” جوا.
الثانية: اقدام طائرات التحالف الامريكي بقصف معسكر للجيش السوري (الصاعقة) في ريف دير الزور الغربي نتج عنه مقتل ثلاثة جنود، الجميع اكد ان الغارة كانت امريكية بما في ذلك السيد رامي عبد الرحمن رئيس المرصد السوري المرضى عنه امريكيا واوروبيا، الذي قال في بيان “انها المرة الاولى التي يتكبد فيها النظام خسائر بشرية جراء قصف جوي من الائتلاف، لكن المتحدث باسم هذا الائتلاف نفى هذه الاتهامات جملة وتفصيلا، وقال “لم ننفذ اي ضربات في هذا الجزء من دير الزور، وقصفنا آبار نفط على بعد 55 كيلومترا عنها.
الحكومة السورية قررت التقدم بشكوى الى مجلس الامن الدولي احتجاجا على هذا العدوان الذي يشكل انتهاكا لسيادتها، واذا كان التحالف لم يكن خلف هذه الغارة فمن يكون؟ فـ”الدولة الاسلامية” وباقي فصائل المعارضة المسلحة لا تملك طائرات ولا صواريخ جو جو؟، “طير ابابيل” مثلا؟
الثالثة: ازمة تهريب نفط “الدولة الاسلامية” واندلاع “حرب كلامية” بشأنها بين ايران والعراق وروسيا من ناحية، وتركيا من ناحية اخرى، الدول الثلاث تتهم تركيا بلعب دور كبير في تسهيل مرور وتسويق نفط هذه “الدولة”، وتبنت ايران الرواية الروسية في صيغتها الاولى التي تتهم الرئيس التركي رجب طيب اردوغان شخصيا واحد ابنائه، وصهره في تجارة النفط المهرب هذا، وهي تهم اثارت غضبه لدرجة انه اتصل بالرئيس الايراني حسن روحاني شخصيا وهدده، بأن بلاده ستدفع ثمنا باهظا اذا استمرت اجهزة الاعلام الايرانية في ترديد هذه المزاعم الكاذبة، التهديد اعطى مفعوله فورا، وتوقفت حملة الاتهامات الايرانية ضد اردوغان واسرته، ولكن دخول السيد العبادي رئيس وزراء العراق على الخط وتكرار الاتهامات نفسها صب المزيد من الزيت على نار الازمة وزاد من اشتعالها.
الحكومة الامريكية حليفة الرئيس اردوغان تدخلت وادلت بدلوها في هذه المناكفات، وقالت ان كميات نفط “الدولة الاسلامية” التي تمر عبر الاراضي التركية قليلة، معترفة بهذه الاتهامات جزئيا على الاقل، بحيث انطبق عليها المثل الذي يقول “جاء يكحلها عماها”.
ومن المفارقة ان ازمة نفط “الدولة الاسلامية” تتزامن مع ازمة منظمة “اوبك” التي فشل اجتماعها الاخير في فيينا في السيطرة على انتاج النفط وصادراته، بسبب الخلاف الايراني السعودي الذي انعكس على مداولات وزرائها، والنتيجة حدوث انهيار جديد للأسعار، حيث انخفض سعر برميل النفط الى ما دون حاجز الاربعين دولارا، وهناك تكهنات بأنه قد يصل الى الثلاثين دولارا، في حال ما بدأت ايران في ضخ مليون برميل اضافي مثلما تخطط.
“الدولة الاسلامية” تتابع هذه التطورات التي تعني فألا سيئا لها، باعتبارها دولة منتجة ومصدرة للنفط، في وقت بدأت ميزانيتها تواجه عجوزات كبيرة بسبب انخفاض الاسعار اولا، وضربات الحلفاء الغربيين والروس معا لتبرير آبارها ومصافيها، وضرب قوافل الشاحنات التي تنقل نفطها الى المشترين سواء في دمشق او انقرة او ما بعدهما، واذا استمر حال التدهور هذا لمنظمة “اوبك” فمن غير المستبعد ان تتخلى “الدولة” عن طموحاتها المستقبلية في قبول عضويتها.
***
نكتب بسخرية لان المشهد السوري بات حافلا بكم هائل من الالغاز و”اللوغاريتمات” التي تستعصي على الفهم، فَهمنا نحن على الاقل، فلم نعد نعرف من يضرب من، ومن يعادي من، ومن هو الصديق ومن هو العدو، فخريطة الضربات تتغير بسرعة، ومعها خرائط التحالفات، وادوار اللاعبين الاساسيين والثانويين معا.
لا نعرف كيف ستنتهي الازمة بين تركيا والعراق على ارضية “الغزو” البري لقوات الاولى، مثلما لا نعرف الى اي مدى ستتطور ازمة اسقاط الطائرة الروسية من قبل الاولى، اي تركيا، ولا كيف سيتم حسم ازمة تهريب نفط “الدولة الاسلامية” بين تركيا ومعظم الاطراف الاقليمية، ثم كيف سيكون الردين الروسي والسوري على غارة طائرات التحالف واطلاقها تسعة صواريخ على موقع للجيش السوري في دير الزور.
ما نعرفه، ومتأكدون منه، ان التوتر تتصاعد وتيرته بسرعة فائقة، والاحتقان المتضخم في اكثر من ازمة من الازمات الثلاث ينتظر عود الثقاب فقط لكي ينفجر.. والانفجار قادم حتما، والخلاف هو حول حجمه، واخطاره، وضحاياه فقط.