1ـ
شهد يومُ 23 سبتمبر الماضي تدشينَ مسجد موسكو الكبير بحضور رسمي (الرئيسان الروسي والتركي وبعثات قمّة أخرى فلسطينية وكازاخستانية إلخ)أرادت السلطات الروسية أن يحملَ رسائل محدّدة . هكذا أعيد افتتاحُ المسجد الضخم بعد عشر سنوات من إعادة البناء والتوسيع قامت بها شركة بناء تركية بتمويل روسي إسلامي. ورغم أن استطلاعات الرأي أظهرتْ حينها أن أغلب الروس ينظرون بعدم ارتياح إلى إعادة افتتاح مسجد موسكو الكبير فإن الغايات السياسية لحكومة بوتين جعلتْ الأخير يصرّ على استثمار الحدث. فمثلا اعتمدتْ كثيرا السلطات الروسية على تركيا في تحسين صورتها لدى مسلمي روسيا (العشرين مليونا)، الذين ينتمي أغلبُهم إلى نسيج الثقافات واللغات التركية. بعد ذلك بخمسة أيام سرّبتْ السلطات الروسية معلومات ذات أبعاد رمزية بديهية عن اتفاق روسي تركي حول الشروع في بناء “مسجد ضخم” في عاصمة شبه جزيرة القرم بتمويل وتنفيذ تركي. ثم تسارعت الأحداث أكثر ولكن في اتجاه ومكان آخرين. فيومان بعد هذا الإعلان (30 سبتمبر الماضي) أجاز برلمان الفدرالية الروسية قرارا بالتدخل الواسع للجيش الروسي في سوريا.
ـ2ـ
من الوارد جدّا أن أزمة أوكرانيا وانضمام القرم إلى روسيا مثلتْ أكبرَ حدث جيوستراتيجي في القارة الأوربية منذ انهيار جدار برلين. بمعنى ما مثلتْ الأزمة الأوكرانية من وجهة نظر غربية نهاية “نهاية التاريخ”.
لنتذكّر هنا أن اسم القرم مأخوذ حسب الألسنيين من اللغة التتارية التركية، ومعناه : جبلنا. لشبه جزيرة القرم كما هو معروف مكانة مركزية في ذاكرة الصراع الروسي التركي. ولها أيضا في ذاكرة الصراع الروسي الغربي. وقد كررتْ تركيا أنها لن تعترف بضمّ القرم إلى روسيا. ولكنها ابتعدتْ عكس حلفائها الغربيين عن كل إجراءات أو لهجة تصعيدية خلال الأزمة الأكرانية. واكتفتْ مثلا بالنسبة لمسلمي القرم بدعم رمزي للمؤتمر العالمي للتتار. هذا بالرغم من أن مسلمي القرم ـ وأغلبهم تتار ـ يشعرون بتخوف كبير من انعكاسات ضمّ بلدهم إلى روسيا.
ـ3ـ
حاولنا في حديث سابق أن نلحّ على التطور الذي عرفتْه العلاقات التركية الروسية بعد نهاية الحرب الباردة. تنامتْ هذه العلاقات خلال العقدين الماضيين بشكل ملحوظ وأصبح التعاون الاقتصادي المتعدّد الأبعاد عنوانَها المركزي. موازاة مع ذلك، اكتسبتْ تركيا منذ التسعينات نفوذا متزايدا في جزء من المناطق الناطقة باللغات التركية وبشكل أعمّ في القوقاز الجنوبي. وهو بالتأكيد أمر حساس بالنسبة لروسيا. فهذه المناطق التي تشكلُ أحد مفاتيح الصراع على التحكم في مصادر الطاقة في العالم هي أيضا المناطق التي تحاول الولايات المتحدة عبرها تطويق روسيا. وهي أيضا المناطق التي نظرتْ إليها روسيا خلال كل القرن العشرين كطوق نجاتها الطاقي والجيوستراتيجي. إنها بداهة إحدى المناطق الجيوستراتيجية المفصلية في العالم. طبعا يوجد هنا أحد العناصر البارزة التي تقف خلف أهمية تركيا بالنسبة للولايات المتحدة.
ـ4ـ
ندرك إذًا أن نفس العناصر التي تَدفع تركيا وروسيا إلى الصراع تدفعهما أيضا إلى التقارب. روسيا مثلًا نظرتْ بإيجابية إلى الابتعاد المتزايد نسبيا لتركيا خلال العقد الأخير عن حلفائها الغربيين. ولكن هذا الابتعاد التركي عن الدول الغربية عَنيَ عمليا إعادة تَموْقع تركيا في العالم الاسلامي وخصوصا العالم العربي وفي البلدان الناطقة باللغات التركية. وعَنِي تبعا لذلك تأثيرا بمستوى أو آخر في عموم المناطق الإسلامية حول وداخل روسيا من آسيا الوسطى إلى أوربا الجنوبية. وهو أمر تنظر إليه روسيا بحذر كبير. وفي نفس الوقت فإن ابتعاد تركيا عن الغرب يجعل روسيا تشعر بامتلاك أوراق ضغط أكبر على تركيا. وهو ما ظهرَ مثلا في ملفات العلاقات التركية مع بعض دول القوقاز. من هنا أيضا اهتمام تركيا بتوسيع خياراتها الشراكية خصوصا في الميدان الطاقي. ويمثل العنصر الأخير طبعا أحد العناصر التي تقف خلف اصطدام روسيا وتركيا في سوريا (مشاريع أنابيب الغاز الإيرنية والقطرية).
ـ5ـ
إبعاد تركيا عن روسيا أو روسيا عن تركيا، في حدود معينة، هو أمر بالغ الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة. والملف السوري هو أحد الملفات المفخخة في هذا المستوى. وأيا تكن الأسباب الفعلية لإسقاط تركيا للطائرة الروسية فإنها تمنح بمعنى معين الولاياتِ المتحدة وحلفاءها الغربيين ورقةَ ضغط مزدوجة.
كيف يمكن تفسير ما اعتُبر ـ ربما بتسّرع ـ كرغبةً غريبة لروسيا خلال شهري اكتوبر ونوفمبر الماضيين في”الاحتكاك” بتركيا واستعراض الأولى عضلاتها العسكرية الجوية على حدود الثانية رغم أن كل المعطيات الموضوعية تشير إلى حاجة روسيا الملحة إلى علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع تركيا ومصلحتها خصوصا في عدم دفع الأخيرة إلى البحث عن شراكات بديلة أيا يكن التنافس وأحيانا التناقض بين الدولتين ؟
قبل أن نعود إلى هذا السؤال في حديث لا حق لنلاحظ أن النيتو “يؤيد” تركيا كأحد أعضائه في وجه روسيا ولكنه “تأييد” غامض الدلالة في الوقت الراهن. وإذا أضفنا الملف الإسرائيلي (لأسباب معروفة روسيا حذرة إعلاميا بهذا الخصوص) وتوظيف الجميع لملف الطوائف الدينية والثقافية في المنطقة ندرك مردود حوادث جسّ النبض وحادثة إسقاط الطائرة الروسية بالنسبة للولايات المتحدة.
ـ6ـ
وفضلا عن ذلك فإن الخطوات التنموية الكبيرة التي قطعتْها تركيا في السنوات الأخيرة ونتائجها الجيوسترتيجية الممكنة هي أمر يزعج كثيرا من المجموعات الأيديولوجية والمصلحية بما في ذلك داخل بعض أروقة القرار في الدول الحليفة لتركيا. وتُكررُ هذه المجموعات باستمرار أنه يلزم الضغط لتعطيل المسار التنموي لتركيا قبل وصوله لـ”مرحلة اللاعودة”. وهو ما يجعل تركيا تسير في المرحلة الحالية محاطة بكثير من المخاطر. صحيح أن تركيا عضو في النيتو منذ 1952 وعضو مؤسس في مجلس أوربا منذ تأسيسه سنة 1949، وصحيح كذلك أن سمعة بوتين بشكل عام سيئة في الدول الغربية والأوربية، باستثاءات محدودة. ولكن أسباب عديدة تجعل أجزاء واسعة من الرأي العام في أوربا والدول الغربية تشعر بسهولة بنوع من التعاطف مع روسيا بوتين حين يكون المستَهدف تركيا أردوغان.
* مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل