إذا كان علم السياسة معني بكل مكونات الدولة وتنظيمها وقيمها، ومجمل تفاصيل الحياة اليومية فيها، أي ما يجعله "علم الدولة"، فلماذا لم يكن في سجلنا ومن بعد مرور واحد وستين عاما على نشأة الدولة واستقلالها، من اهتم بالسياسة مفكرا كان أو منظرا كالذين عرفوا عبر العالم من بين القدماء أمثال كونفوشيوس وأفلاطون وأرسطو والفارابى وابن رشد وابن خلدون، ومن بين المعاصرين منظرين أمثال (ميشال عفلق وماركس) أو فلاسفة (علي عزت بيكوفتش) أو محامين وقادة (المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا)، أو فقهاء وعلماء ودعاة وخطباء (محمد عبدو) أو فنانين ورياضيين ومبدعين (ريغن، عمران خان) أو علماء وملهمين (آيات الله الخميني)، أو كتابا وأدباء (نورودون سيهانوك، وسانغور)، أو عسكريين خطباء (ديكول) ومنظرين (جمال عبد الناصر)، أو فاتحين واستراتيجيين (نابوليون) أو فنيين ونقابيين (ليش ماليسا)، أو تحرريين وخطباء (انكروماه، سيكو توري) أو قادة موحدين (ماو اتسيتونغ) قادة محررين وموحدين (ابراهام لينكولن) أو بناة، مخططين ومنظرين (سوهارتو) وقادة حقوقيين (ومارتان لوثر كينغ)، والمئات غيرهم عبر التاريخ والأزمنة الحاضرة؟
وإن اتساع اهتمامات السياسة هو ما جعله علما مرتبطا أشد الارتباط بالثقافة العميقة الملتزمة التي تتداخل، أسئلة وإجابات، بعلوم التاريخ والاقتصاد والاجتماع والقانون والنفس، وحتى إلى حدود عوالم العلوم الطبيعية حيث تحولت علاقة السياسة بالثقافة لتصبح علاقة تبادلية، وباتت الثقافة شرطا من شروط التكون السياسي الناضج المتزن العقلاني، وظهور الاهتمام بالسياسة منذ ذاك أيضا عند كبار المفكرين والفلاسفة والفقهاء منذ القدم.
إن ذلك التعريف البالغ الحساسية للسياسة، علما ووعيا وممارسة والتزاما أخلاقيا وتحكيما للضمائر اليقظة، هو الذي يخيف دوما جميع الجهات التي تسعى لتشويه شخصية الإنسان في كل مفاصل هذا الوطن. وإن تلك الجهات لا يهمها أن تكون السياسة "هواية" عابرة، تنشط أحيانا لتترهل أحيانا أخرى، مرتبطة بمطلب معيشي متغير محدود يقود إلى فورة مؤقتة؛ وأما الذي يخيفها فالثوابت الكبرى في الفكر والمنهجية والنضال الطويل الأمد، وعلى الأخص في الجانب التنظيمي الذي يسعى بإصرار إلى نقل المجتمعات باتجاه الحالات المتقدمة من ممارسة
الديمقراطية الحقيقية والعادلة، لا المظهرية، في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع، ليس فقط في الأمور السياسية التنظيمية كالانتخابات الدورية والمجالس.
ويبقى الخوف فقط من الفكر النير القلق، المتسائل الإبداعي، المرتبط بالعلم والثقافة العميقة والإحساس الشديد بفضيلة العدالة، عدالة الحق والقسط والميزان في وجه الظلم الغبن والإقصاء والطغيان.
وإنه لا حاجة من منطلق هذه المسلمة إلى التذكير بالأخطار التي تحيق بأمة البلد من دون استثناء أية مكونة على الإطلاق. ولن تكفي جهود الحكومات في التصدي لهذه الأخطار مهما بلغت من الكفاءة والشفافية ونظافة اليد. فإن هذه المهمة تحتاج إلى جهود المجتمع كله، وعلى الأخص فئة الشباب، مما يبين أن أفضل خيار للحكومات هو التحول عن الأطر الحزبية الراكدة وزعاماتها الجامدة إلى إشراك فئات الشباب بدلا من إبعادها عن السياسة، أو جرها إلى مغريات ممارسة أنشطة سياسية انتهازية مبتذلة عوضا عن مساعدتها على ممارسة نشاطات سياسية سلمية، ديمقراطية ومتزنة، وفتح الباب على مصراعيه في إطار قوانين عادلة تمكن من رفع الحرج عنها والإعلان عن مشاركتها ضمن أطر شتى أشكال المؤسسات السياسية، من أحزاب وفي المجتمع من جمعيات ونقابات ونواد وروابط مستقلة حقوقية وديمقراطية.
وهى ذات الإرادة، القادرة، التي إن وجدت، فهي القادرة على رسم البداية والانتقال إلى استكمال المشاوير من خلال تعليم ثقافة سياسية عقلانية لكل الطلاب، سعيا إلى إنتاج مواطن مسؤول، من خلال التدريب المستمر والمعتمد على التحيين الشامل لممارسة تلك الثقافة في المدرسة والجامعة، وعلما بأنه لم يُبعد الشباب بمكونتيه عن تعلم وممارسة علم السياسة في أي بلد إلا وكانت النتيجة وبالا على المجتمع الذي يصبح أسيرا للانتهازية والزبونية وكل أنواع المظالم والفساد؛ حقيقة مرة لسنا ببعيدين عنها وتطحننا تبعاتها المأساوية بفعل ما هو كائن من احتكار نخبة متقادمة ومتهالكة للفضاءين السياسي و المدني تحت أسماء مستعارة كثيرة وعباءات إيديولوجيات مستوردة وبالية.
ولأن التوجه إلى التشاور أصبح واقعا وقد شكل خطوة شجاعة واستثنائية لكسر الجمود بقصد تناول قضايا البلد الكبرى والمصارحة والمكاشفة حولها، وهو ما يتطلب الارتكاز على الأسس المعلومة له. فإنه حتما سيفضي إلى الحوار الشامل؛ قيام يتوجب أن يتم على خلفية صلبة قوامها إعداد النفوس للتصالح والتوافق على المصالح العليا والإخلاص في النية من أجل صلابة الوطن في بنائه ورفعة المواطن لإسعاده وتحقيق الطلاق النهائي مع كل أسباب التمييز والغبن والظلم.
فهل ندرك "نخبا" سياسية وثقافية وشعبا مغيبا خطورة الوضع النفسي للأفراد وانعكاسه السلبي على المسار العام للبلد وما يتسبب فيه من خلط للأوراق وإطلاق "العنان" للأهواء السيباتية المتقمصة كل ملامح البنية المجتمعية التقليدية العصية على الانزياح وقد أفرغت من كل محتوى هوياتي خصوصي واستبقيت كل الأوجه التراتبية الاحتكارية الظالمة ؟
وهل يشكل التشاور، في ظل وعي متنامي تنضح به وسائل التواصل الاجتماعي، فرصة حقيقية لقلب الطاولة على صناع الوضع القائم الذين يعيدون باستمرار سرمدي وأيدي مرتعشة تكراره بكل سوءاته حين أي تحول يطرأ وعند كل منعطف يستجد أو موسم سياسي يحل؟
وهل تشطب المرحلة كل الأسماء المزكومة وتمنح البلاد فرصة استكشاف نفس جديد من الشباب، أصحاب أياد نظيفة وخبرات من وحي العصر، يأخذون الدفة ويوجهون البوصلة بحسابات متقنة إلى وجهة التنمية ودولة القانون والمواطنة؟