منذ فترة تطالعنا المواقع بأخبار تتعلق بملف فساد كبير في العقارات تم فتحه، وكان آخر تلك الأخبار توقيف فرقة الدرك المختلطة لبعض المسؤولين السابقين في وزارة الإسكان. كما طالعتنا تلك المواقع مؤخرا بخبر آخر مفاده أن الشركة الوطنية للماء قد فسخت عقودا مع وكالتين وسيطتين للتشغيل كانتا تتوليان توفير العمال للشركة الوطنية للماء.
إننا أمام ملفين في غاية الخطورة والأهمية : أولهما ملف العقارات، وهو لاشك ملف فساد كبير الحجم ويبدو أن التحقيقات فيه ستشمل الكثيرين، وثانيهما ملف وكالات اكتتاب وسيطة، وهو أيضا ملف مهم، وضحيته العمال البسطاء الذين كانت تتربح على كواهلهم المثقلة بالهموم والمشاكل تلك الوكالات.
تكمن خطورة هذين الملفين في كون المتضررين من فتحهما ليسوا مجرد أشخاص عاديين، بل هم أشخاص لهم نفوذ ولهم القدرة على التأثير على الرأي العام، من خلال ما جمعوا من أموال طائلة من تزوير رخص العقارات بالنسبة لأصحاب الملف الأول، ومن استغلال العمال البسطاء بالنسبة لأصحاب الملف الثاني.
المؤكد أن المتضررين من هذين الملفين سيقاتلون بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لإجبار من فتح الملفين على إغلاقها في وقت مبكر. والمؤكد أيضا أنهم على استعداد للإنفاق وبسخاء من المال الحرام الذي جمعوا على كل من يستطيع أن يشوش على مسار الملفين من مدونين وصحفيين وغيرهم.
تلكم هي الصورة على مستوى جبهة المتضررين من فتح الملفين، وهنا علينا أن نطرح السؤال : وماذا عن الطرف الآخر، أي الجبهة التي يفترض أنها تدعم الإصلاح ومحاربة الفساد؟
الجواب للأسف هو كالتالي : سيكتفي الكثير ممن يحسبون على جبهة الإصلاح بالتفرج، وكأنهم غير معنيين أصلا بمسار الملفين، والبعض الآخر قد يلعب دورا سلبيا من خلال التشويش على مسار الملفين، وذلك بمشاركته الواعية أو غير الواعية في نصرة جبهة المتضررين من فتح الملفين، ويمكن أن يحدث ذلك من خلال القول بحجج واهية تستخدم دائما في مثل هذه الحالات، وهي حجج من قبيل : لماذا لم يفتح من ملفات الفساد إلا ملف العقارات لوحده؟ ولماذا لا تُحارَبُ وكالات تشغيل العمال إلا في الشركة
الوطنية للماء لوحدها؟
هذه مجرد عينة من الحجج التشويشية، والتي تظهر عادة عند فتح هذا النوع من الملفات، ويمكن الرد على هذا النوع من الحجج الواهية بالقول إن الفساد قد انتشر في هذه البلاد، ولم يعد من الممكن محاربته دفعة واحدة وبهجمة واحدة..لا بد من التدرج، ولعل من أهم الملفات التي يُمكن أن تفتتح بها أي حرب على الفساد في هذه البلاد ملف فساد العقارات. نفس الشيء يمكن أن نقوله في مجال الإصلاح، عن الخطوة الجريئة التي اتخذتها الشركة الوطنية للماء..
إن ما يجب لفت الانتباه إليه هو أنه إذا نجحت الجهات التي فتحت ملف العقارات في عدم إغلاقه من قبل أن يصل إلى منتهاه، فإن ذلك قد يشجع على فتح ملفات فساد أخرى، أما إذا حدث العكس لا قدر الله، فإن ذلك سيعني انتكاسة حقيقية لمحاربة الفساد في هذه البلاد. نفس الشيء يمكن أن نقوله عن الخطوة الإصلاحية التي أعلنت عنها الشركة الوطنية للماء، فإذا نجحت هذه الخطوة الإصلاحية التي أعلنت عنها الشركة، فإن ذلك سيشجع مؤسسات أخرى على اتخاذ خطوات إصلاحية مماثلة، وإذا فشلت هذه الخطوة لا قدر الله، فإن ذلك سينعكس سلبا على أي مؤسسة عمومية أخرى قد تفكر في اتخاذ خطوات إصلاحية مماثلة.
أظن أنه قد حان الوقت لأن نقول لكل من يسعى إلى الإصلاح ومحاربة الفساد: كفى تفرجا!
إننا في هذه الظرفية، وهذا ما قلته سابقا، بحاجة إلى حراك نخبوي أو جماهيري أو كلاهما معا (وهذه الأخيرة هي الأفضل) يرفع شعار "نثمن وننتقد"، يثمن ما يستحق التثمين دون تزلف أو تطبيل، على أن يكون الهدف من ذلك التثمين هو تحفيز النظام على اتخاذ المزيد من الخطوات الإصلاحية، وينتقد ما يستحق النقد، ليس بهدف إحراج النظام وإظهار عيوبه، وإنما بهدف كشف الخلل في العمل الحكومي مع الحث على إصلاحه.
إننا بحاجة في هذه الفترة بالذات إلى حراك يمتلك القائمون عليه شجاعة مزدوجة : شجاعة النقد وشجاعة التثمين، ومن النادر جدا أن تَجمع نخبنا بين شجاعة النقد وشجاعة التثمين، فالشائع عندنا هو أن هناك نخبة تبالغ في التثمين، ونخبة أخرى تبالغ في النقد، وأن كلا منهما يسير في اتجاه معاكس للآخر . إننا بحاجة إلى حراك إصلاحي يقظ له القدرة على التحرك السريع والفعال: نصحا ونصرة. إننا بحاجة إلى ما يمكن تسميته ب"الأغلبية الناصحة"، وربما يكون هذا المصطلح جديدا على قاموسنا السياسي، مع أنه لا يختلف من حيث الدلالة السياسية عن "المعارضة الناصحة"، ذلك أن الفرق بين ما يمكن
تسميته بالأغلبية الناصحة والمعارضة الناصحة ينحصر فقط في مقدار التثمين ومقدار النقد في الخطاب السياسي، فالمعارضة الناصحة يكون نقدها أكثر من تثمينها، أما الأغلبية الناصحة فتثمينها يكون أكثر من نقدها.
إننا بأمس الحاجة إلى حراك إصلاحي غير تقليدي يدعم أي جهد في مجال محاربة الفساد، ويتمتع القائمون عليه بالمواصفات أو الصفات التالية:
1ـ أن لا يكون من بينهم من في ماضيه أي شبهة فساد، وأن يكون كل واحد منهم على استعداد لأن يقف ضد أي شخص ثبت فساده، حتى ولو كان ذلك الشخص من أقرب أقاربه؛
2ـ أن لا يكون من بينهم من قد عُرِف عنه أي نشاط سياسي قبلي أو جهوي أو شرائحي؛
3ـ أن لا يكون من بينهم من عُرف بالسلبية أو العدمية أو التثبيط، أو ممن عُرف بالاكتفاء بالتفرج على ما يجري في البلد من أحداث، ودون أن تكون له أي ردة فعل؛
4ـ أن يكونوا جميعا من المؤمنين بأهمية الإصلاح المتدرج، وكذلك من المقتنعين بأن إصلاح أي مجتمع يبدأ أولا بإصلاح النفس؛
5ـ أن يكون كل واحد منهم على استعداد للتبرع بساعة على الأقل من كل أسبوع للخدمة العامة.
ذلكم قوسٌ كان لابد من فتحه، ولنعد الآن إلى ملفي العقارات والوكالات الوسيطة لتشغيل العمال، وذلك لنطرح السؤال الأكثر استعجالا :ماذا يجب علينا فعله الآن لمواكبة هذين الملفين الهامين؟
أظن أن الإجابة على هذا السؤال يمكن تلخيصها في النقاط الأربع التالية:
1 ـ التوقف الفوري عن التفرج وعدم ترك الساحة للمتضررين من فتح الملفين؛
2 ـ تثمين فتح الملفين ومواكبتهما إعلاميا، وتثمين فتح أي ملف فساد آخر ومواكبته إعلاميا.؛
3 ـ المتابعة اليقظة لمسار الملفين، وعدم القبول بغلقهما من قبل أن يصلا إلى منتهاهما؛
4ـ لفت الانتباه على خطورة إعادة تعيين أو توظيف كل من ثبتت إدانته في أي ملف فساد تم فتحه مؤخرا؛
حفظ الله موريتانيا...