يعيش المجتمع الموريتاني منذ عقود انقلابا واضحا في القيم، وخللا بينا في الذائقة العامة، ويمكن رصد ذلك من خلال حزمة من المظاهر المتناقضة، والتي يمكن إجمالها في النقاط التالية:
(1)
أن المجتمع الموريتاني لم يعد يُخفي تشبثه بالفساد وتمجيده للمفسدين، وبغضه للإصلاح وازدراءه للمصلحين... المفسد في بلادنا ينظر إليه بالكثير من التقدير والاحترام، ويرفعه المجتمع مكانا عليا في السلم الاجتماعي على قدر فساده وإفساده، فهو الوجيه عند الجميع، وهو المحظوظ الذي يُحسد من طرف الجميع على ما أتيح له من "فرص ثمينة" لممارسة الفساد والإفساد. أما المصلح صاحب اليد النظيفة - وهو الفقير في أغلب الأحوال – فإن الجميع يستعيذ من سوء حاله ومن سوء حظه الذي أبلاه بصفة مذمومة، أي الفقر، وقد تكون هذه هي الصفة الوحيدة التي يتفق المجتمع الموريتاني كله على أنها صفة مذمومة.
(2)
إن المجتمع الموريتاني مجتمع مسلم بنسبة 100%، لا شك في ذلك، ولكن ذائقته الدينية الجمعية - إن جاز استخدام هذه العبارة - تعاني من خلل كبير ، فهذه "الذائقة الجمعية" حصرت الدين الإسلامي في العبادات، وأخرجت منه ـ ومن خلال اجتهاد موريتاني خالص ـ المعاملات، ولذا فليس من الغريب أن تجد الواحد منا لا تفته صلاة الجماعة في المسجد، ولا يفطر يوما من أيام رمضان، بل ويصوم الاثنين والخميس والأيام البيض، ولا تفته كذلك عمرة، ومع ذلك فهو لص وكارثة على المال العام، ولا يتوقف عن الكذب والخداع والتزوير، ولا يتردد في خيانة الأمانة، ولا في عدم الوفاء بالعهد، ولا في ممارسة أي صفة من الصفات التي تصنف لدى المجتمعات الأخرى على أنها صفات مذمومة.
قد نكون في هذه البلاد - ورغم كل مظاهر تديننا - من البلدان القليلة في هذا العالم التي تُسرق النعال في مساجدها، ويكفي للتعبير بشكل صارخ عن مظاهر تناقض
تديينا أن المساجد في بلادنا يُجمع فيها بين الصلاة وسرقة النعال!!!
لم يعد غريبا في مجتمعنا أن يستوقفك "شخص ما" لا تعرفه، قرب دار للقضاء أو مكتب للحالة المدنية، ويسألك إن كانت لديك بطاقة تعريف وطنية، فإن أجبته بنعم، طلب منك أن تشهد له لكي يستخرج وثيقة مدنية ما، فإن رفضت ذلك بحجة أنك لا تعرفه، ولا تستطيع أن تكون شاهد زور صب عليك جام غضبه، واعتبرك من الذين "يمنعون الماعون".
وإذا ما أجرينا اختبارا "دنيويا" على ديننا، فإن مجتمعنا سيحصل - وبلا شك- على نتائج مميزة جدا في العبادات ( الصلاة؛ الصوم؛ الحج...إلخ)، ولكنه سيقصى من الامتحان بسبب تدني نتائجه في "مواد المعاملات"، بل وربما يجد صفرا مكعبا بلغة العامة في مواد أساسية في الدين: كالصدق؛ والوفاء بالعهد، والأمانة، والابتعاد عن التزوير والخداع وسرقة المال العام.
إن من مظاهر انقلاب قيمنا في هذه الجزئية هو أنه إذا ما حصل وأن تم إيقاف سارق للمال العام أو مزور لرخص أراضي وعقارات أو تاجر مخدرات، وقليلا ما يحدث مثل ذلك، سارعنا إلى التضامن مع ذلك الموقوف، وإن أفرج عنه أقمنا الأفراح وأحيينا الليالي الملاح.
(3)
إن المجتمع الموريتاني معروف أنه مجتمع يسارع دوما ـ بأغنيائه وفقرائه ـ إلى اقتناء آخر ما تنتجه التكنولوجيا من سيارات فارهة، وهواتف مبهرة، وتلفزيونات راقية، ولكنه ورغم اقتنائه لآخر صيحات وصرخات الموضة، إلا أنه مازال يعيش بعقلية وسلوك البدوي الذي لم يعرف في حياته إلا الصحراء والخيمة وتتبع القطيع..إن مجتمعنا ـ ورغم حيازته لكل ما أنتجت التكنولوجيا - يعيش في فوضى عارمة في كل شيء، ويكفي لتأكيد ذلك أن يلقي أي واحد منا نظرة خاطفة على حركة السير في أي شارع من شوارع العاصمة، فإن فعل ذلك فسيرى عجبا...يمكن لأي واحد منا أن يشيد محلا على رصيف شارع، وأن يلقي القمامة في مكان عام، وأن يسير بسيارته عكس الاتجاه، وأن يوقفها على الشارع معطلا بذلك حركة المرور، وعندما تنبهه ـ بكل أدب ـ على خطئه يجيبك غاضبا ومتشنجا : هل الشارع ملكك؟ وكأنه هو قد ورث ذلك الشارع من جده الأول أو الثاني حتى يحق
له أن يوقف فوقه سيارته متى شاء وكيفما شاء!!
المضحك المبكي في هذا الأمر هو أن "عقلاء" و"نخبة" مجتمعنا قد يحتاجون في بعض ملتقيات طرق العاصمة ل"مجانين" ينظمون لهم حركة السير!!
(4)
من المعروف أن الفقر منتشر في بلادنا، وأن نسبة كبيرة من المجتمع الموريتاني تعيش تحت خط الفقر، ومع ذلك فالمجتمع الموريتاني هو مجتمع متكبر، يزدري المهن، ويفتخر بالكسل والاتكالية، ويشجع الفرد على العيش عالة على الآخرين..
بكلمة واحدة، فإن مجتمعنا يعاني من خلل كبير في الذائقة الجمعية، ولا أدري إن كان الحل يكمن في :
- أن نعتبر مجتمعنا "مجتمعا مجرما" فنحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ولا نسمح له بالخروج من السجن إلا بعد أن يعلن عن توبة صادقة لا رجعة فيها؛
- أن نعتبره "مجتمعا قاصرا" فنتعامل معه كما يتم التعامل مع القاصر الذي يرتكب جنحة أو جريمة...أي أن نخلط له بين العقاب ومحاولة الإصلاح وإعادة التأهيل؛
- أن نعتبره "مجتمعا جاهلا وأميا" فندخله عن بكرة أبيه في مدارس للكبار لمحو الأمية، فنعلمه الأبجدية في المواد التالية: النظام؛ الاستقامة؛ الصدق؛ الوفاء بالعهد؛ طرق العيش في المدن، وكيفية التعامل مع الآخر ...إلخ؛
- أن نعتبره مجتمعا بلغ الدرجة العليا في الفساد والإفساد، ولم يعد بالإمكان أن نصلحه "ذاتيا"، ولذا فعلينا أن نكتتب خبراء ومكاتب دراسات أجنبية تحدد لنا مكامن الخلل، وتقترح الحلول، وتبحث لنا عن جهات قادرة على تنفيذ تلك الحلول مع القيام بالإصلاحات اللازمة.
وحتى لا أختم هذا المقال، ومن دون أن تكون فيه نقطة متفائلة واحدة، فإليكم هذه البشارة:
إن مجتمعنا ورغم كل عيوبه السابقة، يبقى ـ وفي كل الأحوال ـ مجتمعا سهل الانقياد ومحبا للتقليد، فإن رأى من حكوماته ونخبه عملا صالحا سارع إلى إصلاح نفسه، حتى ولو كان ذلك الإصلاح مجرد تمثيل في تمثيل، وإن رأى فسادا سارع إلى الفساد والإفساد، و"أبدع" في ذلك.
ويبقى السؤال : ماذا يجب أن تفعل الحكومات والنخب لانتشال المجتمع مما يعيش من انقلاب مخيف في القيم؟
ذلك سؤال يستحق أن نبحث له عن إجابة.
حفظ الله موريتانيا...
محمد الأمين ولد الفاضل