بسم الله الرحمن الرحيم يرى كثير من المفكرين أن القومية هي المحرك الجوهري في كل توجه أوتيار سياسي يخدم الوطن أو الأمة ، وسواء كان هذا التوجه صريحا ومباشرا ويحمل أصحابه شعار القومية ، أوغير صريح ، بسبب التباس المفاهيم السياسية والتعارض في الخطاب السياسي ، والتجزئة الحديثة التي قطعت أوصال الأقاليم المتجانسة دون أن تفلح في تقطيع الروابط الاجتماعية والقومية بين أهل هذه الأقاليم، مثل ماحصل في فيتنام مع الشيوعيين حسب مايقول "توماس فريدمان " في مقاله المنشورفي الانترنت 30ـ 10- 2014 تحت عنوان (ماذا عن الفشل في فهم أهمية “شيوعيّة” فيتنام و”جهاديّة” داعش)
" إن جوهر الدراما السياسية في فيتنام كان النضال القومي ضد الحكم الاستعماري، وليس احتضان الشيوعية العالمية .. ولكن السبب الرئيس لفشلنا في فيتنام هو أن الشيوعيين تمكنوا من تسخير الشعور القومي الفيتنامي بفعالية أكثر ليس لأن معظم الفيتناميين صدقوا ما قاله ماركس ولينين ، ولكن لأنهم كانوا ينظرون إلى
"هوشي مينه " ، ورفاقِه الشيوعيين، على أنهم واقعيون قوميون بطريقة أكبر. "
أما عن العراق وسوريا فيقول " ..إن داعش، لم تكن قادرة مع نواة صغيرة من الجهاديين على اغتنام الكثير من المناطق السنية غير الجهادية في سوريا والعراق بين عشية وضحاها..لقد احتضن هؤلاء داعش لأنهم تعرضوا للتعذيب بصورة منهجية من قبل الأنظمة الموالية لإيران، ولأنهم ينظرون إلى داعش كوسيلة لإحياء القومية السنية، وإنهاء القمع الشيعي" .
كما يرى البعض أن الشيوعيين في روسيا قد وظفوا الفكرالشيوعي في خدمة القومية الروسية دون سواها ، خلافا لما صمم عليه هذا الفكرالأممي ، الذي يعتقد أن ينبوع التاريخ الإنساني يتمثل أساسا في قوى الإنتاج ووسائله وعلاقاته ، التي تشيع فيما بين الناس عموما ، كما تزعم ماديته التاريخية ، التي يرى الكثيرون بأنها جملة اقتراحات للمستقبل ، لكنها لم تكن جملة تقريرات عن الواقع الذي كان التاريخ الإنساني يتطور على أساسه .
وغير بعيد عن روسيا فإن إيران التي أصبحت يطلق عليها اسم الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد قيام الثورة الإسلامية عام 1979 ، والتي قامت على غرارأفكاروتطلعات الدولة الصفوية ، ذات البعد القومي الطائفي الذي يعتبر أن الدين الرسمي لإيران هو المذهب الشيعي الإثني عشري ، بوصفه مستودع ثقافتها وتقاليدها ، ووعيا ذاتيا لقوميتها الفارسية وجسرا لدولتها الحديثة من أجل التوسع وتصدير تولفة القيم والمعتقدات والأفكارالفارسية الطائفية .
أما في تركيا التي يقودها الرئيس رجب طيب أردوكان ، وحزبه حزب العدالة والتنمية ، المحسوب على جماعة الاخوان المسلمين ، فإن النهج المتبع في هذه الدولة خلال فترة حكم هذا الزعيم هو الأسلوب القومي ، سواء من حيث المنهج أو التطبيق .
لقد لفت انتباهي إلى هذا الموضوع ، أن الحكومة التركية قالت أنها لن تترك التركمان في سوريا لوحدهم ، وحذرت روسيا أن عليها التوقف في الحال عن قصف القرى التركمانية في سوريا ، وركزت في تصريحاتها الأخيرة على عدم قبولها لما تتعرض له الأقلية التركمانية في سوريا من تهجير، بسبب الخوف من طائرات النظام السوري والطائرات الروسية ، التي أسقطت تركيا إحدى مقاتلاتها فوق جبل التركمان ، وقد ذكرني هذا الأمربدفاعها المستميت عن التركمان في العراق بوصفهم من القومية التركية .
ومع أن الأكراد المسلمين يشكلون مكونا أساسيا من مكونات الدولة التركية فإن حكومة أردوكان قد تعاملت معهم بمفهوم وتصرفات الحكومات القومية السابقة .
أما من حيث المنهج والقدوة ، فإن قادة حزب العدالة والتنمية ، لم يستحضروا في أغلب الأحيان فتوحات الدولتين الأموية والعباسية ، رغم قربهما من العهد الراشدي ، ولم يتوقفوا أمام عظمة الأيوبين و"حطين" ، والمماليك و"عين جالوت" ، والمرابطين و"معركة الزلاقة "، وظلوا يطوفون بذواتهم ويتغنون بأمجاد وفتوحات الدولة العثمانية ، ويطالبون قوميا ببعثها ، مع أنها تستحق الإشادة والتقدير، لكنها لم تصل إلى ما وصلت إليه الدولتين الأموية والعباسية اللتين يرجع لهما الفضل في دخول تركيا للإسلام .
غير أنما قام به حزب العدالة والتنمية من تجديد للفكر ، وتركيز مباشر على الشأن التركي ينسجم تماما حسب اعتقادي ـ إذا جاز لي ذلك ـ مع المتطلبات القومية والاسلامية ، وإن كان ذلك محل اختلاف بين قادة الفكر في جماعة الإخوان المسلمين أنفسهم ، حيث يقول عمار شرف في مقاله المنشور في الانترنت تحت عنوان : (منطلقات الرؤية الاستراتيجية للإخوان المسلمين ) " فتجد داخل الجماعة وربما داخل الهيكل القيادي نفسه من يؤمن بأفكار" الإسلاميين التنويريين" عن قبول الإسلام للدولة القومية الحديثة بينما تجد البعض على النقيض تماما يؤمن بما ذهب إليه سيد قطب في أن المنطلق الفلسفي للدولة الحديثة وثوابت الإسلام الأساسية ضدان لا يجتمعان ".
ومع أن عمار شرف الذي يعتبرشاهدا من أهلها قد رصد رؤية الجماعة للخروج من هذا المأزق للإنتقال من دائرة التأثر والاستخدام الي دائرة التأثير والنفوذ ، فقد قدم مثالا حيا لذلك وأضاف في نفس المقال السابق : " وأضرب مثالا حيا برأي الاخوان في تجربة اردوكان ومحل الاعجاب بها وهل هي نموذج للتكامل والتجديد في الإسلام كماذهب الشيخ القرضاوي ،أم أنه نموذج للعلمانية الجزئية وتقويض لنموذج العلمانية الشاملة الأتاتوركية ، كما يذهب إلى ذلك أصحاب التجربة انفسهم؟ " .
وفضلا عما سبق فإن استراتيجية أردوغان القومية قد مكنته من استعادت الأغلبية البرلمانية المطلقة لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة ، حيث سحبت البساط من "حزب الحركة القومية"، الذي فقد ربع شعبيته ، لتذهب جميع هذه الأصوات تقريبا إلى حزب العدالة والتنمية وحد ه .
وخلال انتخابات المجلس الأعلى للقضاء في تركيا التي جرت هذا العام 2015 ، تجذر التحالف بين إردوغان والقوى القومية العلمانية داخل الدولة التركية، وكان هذا التحالف بهدف تكوين معسكر قوي بما فيه الكفاية ، لهزيمة قائمة مؤيدة لجماعة الداعية الإسلامي فتح الله كولن ، الذي يعيش في المنفى الاختياري بالولايات المتحدة ، بعد أن كان في السابق حليفاً مقرباً من اردوغان ، غيرأنهما الآن يخوضان صراعا مريرا .
لذلك استمرت عملية تطهير الشرطة والنظام القضائي ممن يشتبه في انتمائهم لجماعة كولن بشكل متسارع ، بفضل التحالف القومي العلماني العسكري ، بقيادة اردوغان ، الذي وصف في ديسمبر من العام 2013 اتهامات الشرطة التركية لعدد من وزرائه بالفساد بأنها محاولة انقلاب من أتباع فتح الله كولن .
لكن ماهو مدى ارتباط أردوغان بالقاعدة القومية العريضة في تركيا ؟ هل هو مؤقت وتكتيكي ؟ أم هو دائم واستراتيجي ؟ وهل يعتبرأن كل ما قام به هو تجديد أصيل في فكر الاخوان ؟ أم أن ما يجري كله هو رؤية قومية تخص الزعيم رجب طيب أردوكان ؟ .